استمرت المكالمة ساعة كاملة، كانت المناسبة عيد ميلاد صديقتي وفي الحقيقة لم تكن سوى فرصة لأتشجع على رفع السماعة و السؤال عن أحوالها. هي من أوفى صديقاتي، عرفتها في المدرسة و توطدت علاقتنا في المعهد ثم باعدت بيننا المسافات حيث اضطرت للعودة مع عائلتها إلى بلدتهم الأصلية في الساحل التونسي...
كنت سأقفل الخط ثم تذكرت أمرا في غاية الأهمية فسألتها:
- بالمناسبة أمازلت محافظة على الصلاة؟
- نعم طبعا
- الحمد لله، حسن عزيزتي أرجو أن تتخذي خطوة أخرى هامة وهي لبس الحجاب. فليس لك عذرفي تركه لا سيما اليوم...
- نعم بودي ذلك فعلا، أرجو من الله الهداية.
- إذا كنت تريدين ذلك حقا فادعي الله أن يعينك على أخذ القرار. أوصيك أيضا بكثرة الاستغفار، تعلمين لم؟
- ...
- اقرئي سورة "نوح" ستفهمين قصدي. هي سورة قصيرة في أواخر القرآن، طولها صفحة و نصف تقريبا.
- لا أعرفها.. في الحقيقة أنا لا أقرأ القرآن..
- ماذا؟ أتعنين أنك لم تقرئيه كاملا و لو مرة واحدة في حياتك؟
- نعم، هو ذاك..
و من هول الصدمة سألتها سؤالا أحمق: ولا حتى في رمضان؟
ضحكت و بنبرة معتذرة قالت : لا.. فأنا لا أفهم القرآن عند قراءته..
- لا بأس عزيزتي، ابدئي بالقراءة منذ اليوم، لا بد أن تقرئي القرآن كاملا، لن تفهمي كل شيء لكنك ستفهمين الكثير، خذي وقتك ثم إنه بإمكانك مراجعة التفاسير.. لا يعقل أن تكوني في ربيعك التاسع و العشرين و أنت لا تعرفين كتاب الله..
- نعم.. سأحاول إن شاء الله، بارك الله فيك
- تعلمين أني أقول هذا لأني أحبك ...
أقفلتُ الخط و شعرت بارتياح مشوب بحسرة. ارتحت لأن صديقتي العزيزة الوفية تأثرت كثيرا بمكالمتي فقد أدخلتُ السرور على قلبها و نجحتُ في إضحاكها مرات عديدة و لكن من جهة أخرى حز في نفسي أنها لم تعط كتاب الله حقه خاصة و أنها متفرغة تماما فهي لا تزال في البيت تنتظرعملا، فكيف لم يخطر ببالها أن تُؤثث أوقاتها بذكر الله والتعرف عليه من خلال كتابه؟ أليس القرآن هو كلام الله؟ فكيف نغفل عنه؟ لماذا لا نتذكر القرآن إلا في الجنائز؟ لماذا اقترن ذكره في نفوسنا بالمآتم و في أحسن الأحوال ننفض عنه الغبار في رمضان و كأنه حكر على هذا الشهر الكريم. أنسينا قوله تعالى :
"وَمَنْ أعرَضَ عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضنكًا و نحشُرُهُ يومَ القِيَامةِ أعمى" (طه:124)
والإعراض هنا كما قال المفسرون يعني الإعراض عن تلاوة القرآن و العمل به و اتباعه، فكيف نتبع القرآن إن كنا لا نتلوه و لا نعرف شيئا عن موضع آيات الحجاب مثلا أو أحكام الصلاة و الوضوء و الصيام و كل العبادات ثم المعاملات؟ كيف لنا أن نستغني عن منبع الوحي و نعرض أنفسنا لأشباه المتعلمين و نسمع لهم بل و تعجبنا أحكامهم؟ ثم ألسنا فقراء مساكين ضعفاء، نصيب من الذنوب كل يوم ما الله به عليم ؟ فكيف نستغني إذا عن الثواب العظيم لقراءة القرآن الكريم؟ كيف لا نأنس به و نطرد به همومنا و غمومنا و ننسى أحزاننا فمن أراد أن يكلم الله فعليه بالدعاء ومن أراد أن يكلمه الله فعليه بقراءة القرآن.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: " من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة و الحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف و لام حرف وميم حرف ". رواه الترميذي بسند صحيح.
فتخيلوا معي آلاف الحسنات التي نحن بصدد التفريط فيها كل يوم بينما نحن في أمس الحاجة إليها.
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: " ما أصاب عبدا هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماضِ في حكمك ، عدل في قضاؤك أسالك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي " . إلا أذهب الله حزنه وهمه وأبدله مكانه فرحا"
انظروا لهذا الجمال، متى نجعل القرآن ربيع قلوبنا و نور صدورنا؟ متى نخصص له دقائق معدودة من ساعات يومنا الطويلة؟...
كان الرسول صلى الله عليه و سلم يتعبد في غار حراء و يتأمل في خلق السماوات و الأرض قبل أن يبعثه الله رحمة للعالمين، فأتاه جبريل عليه السلام وقال له : اقرأ.. فقال له سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ. فأخذه جبريل فضمه ضمًّا شديدًا ثم أرسله وقال له: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. فأخذه جبريل ثانية وضمه إليه ضمًّا شديدًا، وقال له: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. قال له جبريل:
"اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم" (العلق:1-5)
كانت هذه بداية الرسالة، كانت بداية قوية حتى أن حبيبنا محمدا عليه الصلاة و السلام خشي على نفسه. ولكن تأملوا إلى قوله: ما أنا بقارئ، أقالها عنادا و استكبارا؟ حاشاه بل قالها كرها و اضطرارا فهو لم يكن يقرأ و لا يكتب لكنه معلم البشرية و إمام المرسلين و خير خلق الله أجمعين.
" وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ" (العنكبوت 48)
رسولنا الكريم عليه الصلاة و السلام، كان له عذر بل شرف في عدم القراءة أما نحن فما عذرنا؟ ربنا يقول لنا في كل يوم و في كل لحظة اقرأ و كثير منا يجيبه "ما أنا بقارئ" استكبارا و إعراضا و جهلا و تكاسلا. ما نحن بقارئين فنحن باللغو مشغولون و للمسلسلات متابعون و على أنغام الموسيقى متراقصون و في أحلام اليقظة غارقون فلا نقرأ كتاب الله و لا نقرأ سيرة رسول الله و لا أخبار الصحابة و التابعين و لا أحكام الفقه و الشريعة و لا أي علم نافع. أمة اقرأ لا تقرأ إلا من رحم ربي ...
رمضان على الأبواب فلنطرح الكسل جانبا و لندر ظهرنا للملهيات و لنعرض عن القنوات ولنتجه لرب الأرض و السماوات و لنرفع أيدينا بالدعوات : اللهم ردنا لدينك ردا جميلا اللهم افتح لنا فتحا مبينا، اللهم أعنا على أنفسنا، أعنا على ذكرك و شكرك و حسن عبادتك، اللهم يا ذا الجلال و الإكرام أعنا على المحافظة على ورد يومي من القرآن استعدادا لمزيد من العبادة في رمضان، اللهم بلغنا رمضان و اجعلنا من أهل القرآن يا حنان يا منان ...
يَا رَبِّ أَكْرِمْ مَـنْ يَعيـشُ حَيَاتَـهُ
لِكِتَابِـكَ الوَضَّـاءِ لا يَتَـوَانـى
يَا مُنْزِلَ الوَحْـيِ الْمُبِيـنِ تَفَضُّـلاً
نَدْعُوكَ فَاقْبَلْ يَـا كَرِيـمُ دُعَانـا
اجْعِلْ كِتَابَـكَ بَيْنَنَـا نُـوراً لنـا
أَصْلِحْ بِهِ مَـا سَـاءَ مِـنْ دُنْيَانـا
واحْفَظْ بِهِ الأوطانَ، واجمعْ شملَنـا
فَالشَّمْلُ مُـزِّقَ، وَالْهَـوَى أَعْيَانـا
وانصُرْ بِهِ قَوْمـاً تَسِيـلُ دِمَاؤهُـمْ
فِي القُدْسِ.. في بَغْدادَ.. في لُبْنَانـا
لِكِتَابِـكَ الوَضَّـاءِ لا يَتَـوَانـى
يَا مُنْزِلَ الوَحْـيِ الْمُبِيـنِ تَفَضُّـلاً
نَدْعُوكَ فَاقْبَلْ يَـا كَرِيـمُ دُعَانـا
اجْعِلْ كِتَابَـكَ بَيْنَنَـا نُـوراً لنـا
أَصْلِحْ بِهِ مَـا سَـاءَ مِـنْ دُنْيَانـا
واحْفَظْ بِهِ الأوطانَ، واجمعْ شملَنـا
فَالشَّمْلُ مُـزِّقَ، وَالْهَـوَى أَعْيَانـا
وانصُرْ بِهِ قَوْمـاً تَسِيـلُ دِمَاؤهُـمْ
فِي القُدْسِ.. في بَغْدادَ.. في لُبْنَانـا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق