11/15/2016

عائشة (3)



الساعة وما أدراك ما الساعة. كان للوقت قيمة ثمينة جدا في بيت جدتي. كل شيء بميقات معلوم. توقظنا في الساعة السادسة والنصف، وإذا أتعبناها في النهوض كانت تنزع عنا الغطاء وتدعنا للسعات البرد تلدغ أجسادنا وتطرد عنا بقايا النوم والخمول. كنا نعجب من بساطة هذه الحيلة ونجاعتها. فيا أيتها الأمهات المجاهدات في الثغور، لقد جئتكم بترياق للكسل عجيب، افتكوا من أولادكم الغطاء، يبعثوا من أسرتهم كما يبعث الموتى أحياءً من القبور. ويقولون هات المحفظة والطبشور.

أما وقد أفسدت علينا جدتنا لذة الدفء والنعاس فلا مناص من ترك الفراش برضا أو بامتعاض. كانت دائما تسخن لنا قدرا من الماء في الشتاء نغسل به وجوهنا ثم نستقبل الميدعة والمحفظة والحياة. الخروج في السابعة والربع لا نستقدم عنها ساعة ولا نستأخر. فالمدرسة قريبة وكنا نصل إليها في الوقت دونما عناء ولا استعجال. فلا تأخير أبدا بل هو ضرب من المحال. وحين نعود إلى البيت في العاشرة نجلس قليلا إلى طاولة المطبخ الطويلة المستطيلة. تلك التي تستقبل صحون الطعام كما تستقبل الكتب والكراسات وبعض المسرحيات. صور أميرات ورجال نقتطعها من قصص السلسلة الخضراء (بعد أن قرأناها عشرات المرات) ثم نقيمها منتصبة في سلة الغلال. بين ليمونة وتفاحة تجد أميرة يافعة أو طفلة ضائعة تحركها أصابع صغيرة وتجعل لها أصواتا وضحكات وتساؤلات. 

أما الغداء فنتناوله دائما في الحادية عشرة والنصف والويل لمن لا تكمل صحنها. كنا رقيقتين دقيقتين فلا مجال للتهاون في طعامنا. أما الخروج ففي الساعة الثانية عشرة والربع مما يبقي لنا ربع ساعة لنلتحق بالصف. ينتهي يومنا في الثالثة ولا يجوز لنا أن نقف على باب جدتي بعد الثالثة والربع وإلا فمصير سندرلا ينتظرنا. كما يتحول ثوبها الفاخر إلى أسمال بالية وعربتها الفخمة إلى قرعة يابسة بائسة، كذا تتحول جدتنا الحنون إلى عجوز حيزبون. فاللوم ثم التقريع ولا مجال للفرجة في الصور المتحركة. بل أنتما ستصيران صورا غير متحركة تلتصقان بالكرسي في المطبخ وتراجعان دروسكما، مفهوم؟

لم نعش في حياتنا بنظام أبدا كما عشنا في تلك الأيام. النوم والاستيقاظ، الخروج والدخول، الطعام والشراب، المراجعة والراحة بل حتى "الأعياد" الاستثنائية، كل شيء بقدر معلوم وفي كتاب موقوت. فمثلا لم يكن يسمح لنا باللعب خارج البيت مع أقراننا إلا في مناسبتين أو ثلاث. كما لم يكن يسمح لنا السهر ليلا بعد الساعة التاسعة إلا في الحلقة الأخيرة من ذاك المسلسل المكسيكي "أنت أو لا أحد"، حيث تركتنا جدتي نسمر معها قليلا ونسترق النظر إلى الشاشة العجيبة. فخبروني بالله عليكم أين هذا من ما يحدث اليوم في البيوت؟ كل شيء مطلق بلا قيود. الصغير والكبير ومن لا يزال يزحف على الحصير يتفرجون في سلطان وحريمه بحلاله وحرامه. أين هذا الانضباط من اللذين يأكلون في أرجاء البيت كلها ومتى شاؤوا وأنى شاؤوا وكيفما أرادوا واشتهوا. أين هذا من الأولاد الذين يسهرون أكثر من آبائهم ويأكلون حتى يملوا ويتسكعون حتى يكلوا ويثرثرون ويهضبون ولا يكادون يتعبون. ثم إذا أنت دعوتهم  إلى ساعة جد أو دراسة صاروا يتململون ويتذمرون ويتكاسلون.

لكنها عائشة، جدتي عائشة بحزمها وعزمها، بحبها وحنانها، بجدها ووجدها، تلك التي كانت تلفنا في الغطاء حين نراجع دروسنا بالمطبخ في ليالي الشتاء. تلك التي كانت تشفق على أجسادنا الصغيرة أن يخزها برد الكراسي، تلك التي تسعى جاهدة لتوفر لنا أسباب النجاح والتميز، تلك الأمية التي لم تتركها عصبية الأب الجاهل في تلك العصور الكافرة أن تتنور بنور العلم، تلك التي تحب الإذاعة وتكره التلفاز لأن السكري أذهب قوة نظرها الثاقب. عائشة التي توازن بين الحزم واللين فلا تشد الحبل حتى ينقطع ولا تتركه  فيتداعى في الأرض،  فتدعنا نتفرج أحيانا في تلك السلسلة الفرنسية وبطلها الخارق "ماك قايفير" بل تتفرج معنا وهي تترشف قهوتها وتبتسم لفرحنا. جدتي هي تلك التي تصنع لنا الطعام وتسهر على راحتنا والناس نيام. حتى أني لا أذكر يوما أني مرضت عندها. وحين يأتي جدي في نهاية الأسبوع فتلك إذن قصة أخرى...

قد مضت تلك الأيام الخوالي وطُوي بساطها لكنني مازلت أذكركِ وأذكرها. جدتي عائشة، يا ضحوك السن، يا بسامة العشيات، يا هاشة إلى الضيف، يا كريمة كرم الغيث، يا من عاشت صغيرة اليتم والفقر ثم تجرعت كبيرة غصص القسوة والقهر، يا عائشة الخير، يا من كانت حين نزورها تخبأ لنا حفنات اللوز وشيئا من البرتقال والموز. يا جدتي الحانية الحازمة، يا من لا تحسن القراءة ولا الكتابة ولا تعرف النت ولا تسمع هراء التنمية البشرية، لكنها أستاذة فوق جامعية في فن تربية الأطفال وحفظ الأمانة وحس المسؤولية. رحمك الله يا غالية وجمعنا بك في جنة عالية. وعسى أن يكون ربي قد أبدلك أهلا خيرا من أهلك فوالله ما وفّيناك حقك وإنا لله وإنا إليه راجعون.



11/09/2016

بلاد العُهر أوطاني




في بلاد العُهر التي كانت قبل تسمى دار الإسلام ترى قناة الشعب الممولة بمال الشعب تحارب دينه وتسخر بعقيدته وتهزأ بأخلاقه وتستبيح عرضه وماله وولده ! كل يوم مشاهد لنساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، مسابقات في الجمال وأخرى في السينما والخيال، زعموا. أما الفن فمصيره الاغتيال، أما الذوق فلن تجده محال، أما الجديد فلا جديد وإنما هو التقليد الأعمى الأصم المقيت. كأنه لا خالق ولا حسيب ولا رقيب. كأنه لا إله في هذا البلد السعيد. كأن الله وربي كلمات يعيدونها فقط من باب التقليد، يمضغونها وليس لها في قلوبهم معنى أو صدى. هي كلمات وكفى. من منا يعرف الله؟ من منا يعيش مع الله؟ من منا يوقر خالقه؟ حتى إذا مات أحد فنانيهم وهو في "أوج العطاء" لم يخافوا ولم يعتبروا ولم ينتهوا عما يفعلون، فقد غاب الوازع وألقى منسأته لتأكلها دابة الأرض وإنا لله وإنا إليه راجعون.

قد كنت في صغري أعشق الإذاعة التونسية باللغة الفرنسية أستمع إلى دنيا الشاوش بصوتها الجميل وحيويتها ونشاطها وأحلم بأن أصبح منشطة إذاعية ناجحة مثلها طبعا إلى جانب عملي كطبيبة أو سائقة طائرة. ولعلي جهرت بحلمي هذا مرة أمام أمي فقالت لي ويحك يا بنية، أما علمت أن هذا الميدان فاسد متعفن؟ في الحقيقة قالتها أمي بالفرنسية، قالت لي: "c’est un milieu pourri". فلم أكن أصدق لا من باب تكذيب والدتي لكني فعلا لم أكن أتخيل معنى هذا الكلام. ثم كبرت وعلمت ما لم أكن أعلم. وليتني ما علمت ولا رأيت ولا سمعت ولا دريت. أذكر أن التلفزة الوطنية كانت تحافظ على حد أدنى من الزي اللائق للمذيعات والفنانات إلى حدود ما قبل الثورة بقليل. ثم جاءت علياء بلعيد ترقص وتقفز في آخر سهرات العام البنفسجية في زي كاشف فاضح مخزي فنقمت عندها أشد نقمة، ما هذه الصفاقة؟ ألم يعودوا يكلفوا أنفسهم حتى عناء الستر والتمويه؟ صار العهر والعري جهارا نهارا؟ ثم جاء طوفان الثورة في أجمل أيامها فأتى على الأخضر واليابس وسرعان ما ... تتالت الأيام والأعوام واتسعت رقعة الشيطان في كل مكان. أصبح الشذوذ مثلية والإلحاد في شاشاتنا حرية والراقصات في كل شاشة عربية يحتفلن بالسنة الجديدة الإدارية

ثم صارت "الفنانات" يأتين بلا مجاملات في بضع سنتيمترات من القماش الشفاف وأطنان من مساحيق الزينة فيغنين ويرقصن ويتغنجن كالعاهرات أمام مرأى ومسمع من المشاهدين والمشاهدات. ويسلم عليهن المنشط كما يسلم الواحد منا على أخته وأخيه، ويتبسطن في الكلام ويقلبن المعاني ويخلطن حراما بحرام. لم تعد أجواء الفنانين الفاسدة الماجنة حكرا على أشكالهم من الببغاوات والطيور، فقد اقتحمتها عدسات المصورين والصحفيين التافهين ثم اقتحمت علينا بيوتنا ونشرتها أمام الملأ وكنا في غنى عن مثل هذا الكلأ الذي لا يسرح في ذفره إلا الهوام والأغنام. فإلى أي قاع انحدرنا ومتى تتوقف هذه السفينة المجنونة عن الدوران في موج متلاطم من الرداءة والبذاءة والوقاحة؟

في بلاد العُهر أصبحت الثقافة سينما ومسرح ورقص وغناء وبضع لوحات تافهة معلقة في سيدي بو سعيد الأغنياء. في بلاد القبح صار صافي سعيد فريد عصره في الثقافة وألفة يوسف فيلسوفة زمانها ويوسف صديق نبيا مرسلا وتوفيق بن بريك كاتبا مميزا وناجي جلول وزيرا ناجحا ومجددا وبورقيبة بطلا خارقا وزعيما خالداأما جهابذة الفلسفة والكتابة كأبي يعرب المرزوقي فلن تسمع عنهم في الإذاعة ولن تفرح برؤيتهم في التلفزة إلا قليلا قليلاأما الطاهر بن عاشور والخضر حسين فلن تجد ريح ذكرهم في أي مكانوكذا الكتاب ليس له تغطية إعلامية ولا عنوان إلا إذا كان كاتبه تافها بذيئا متحذلقا. وإن لي أختا وصديقة في الله، خولة حمدي، نجحت كتاباتها عربيا ولم يقع تكريمها ولا تعريف الجمهور بها في تونس وهي على صغر سنها قد أصدرت ثلاث روايات يتسابق القراء في اقتنائها فأين العناية بالثقافة والشباب والقطط المشردة؟

لمَ يهدرون المليارات في مهرجان للسينما والناس جياع؟ وما رأينا من فنهم إلا ديوثين أو مخنثين أو ناقصات عقل وذوق ودين يسعين كالأفاعي على بساط احمر وجهه غضبا لدين الله، على بساط بلون الدماء، بلون الحياء الذي قدم قربانا بين يدي الفن العاهر والهراء، بلون الشرف الذي بيع بدراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين. وليتهم قدموا فنا جميلا وذوقا سليما ثم تبختروا على بساط الدنيا الفاني لكنهم كعادتهم لا يقلدون الغرب إلا في القشور التي لا تغني فتيلا، ولا تزيد في صرح الثقافة السامية كثيرا أوقليلا. إنما هي معاول هدم وتخريب وتشويه وإفساد. فمن لي بهذا الفساد؟

إنه زمن الرداءة ثم البذاءة بل الكفر الصُرَاح والعُهر المباح، إنه زمن كثر فيه اللغط والنباح، فالله الله في الفن الدقيق والأدب الرقيق، أغيثونا بكاتب صادق أومخرج حاذق، ارفعوا عنا هذا البلاء الماحق، ارحموا الطفولة والشباب الصاعد يرحمنا ويرحمكم الله !

"وإلف القبيح متلفة للإحساس والعقل جميعا" 
محمود محمد شاكر


11/04/2016

عائشة (2)



عجبا لبني البشر كم نعشق التغيير منذ الصغر. عجبا لذاك العام السعيد، لذاك العيد الذي يأتي مرة في العمر. عيد ما بين عمرين، عمر حياتنا بالمدينة وعمرنا الذي عشناه في بيتنا الجديد بعيدا في الأرياف. لا أدري ما هي الملابسات التي جعلت أبواي وأختاي الكبرى والصغرى ينتقلون جميعا إلى مملكتنا الجديدة البعيدة في حين تأخرت أنا وأختي التوأم حولا عن الركب. ربما أرادت أمي أن نواصل تعليمنا كالعادة في مدرستنا بنهج إسبانيا. لذلك قضينا عاما دراسيا في بيت جدتي لأمي عائشة، قرة عيني، الحبيبة إلى قلبي، تلك التي فُجعت بفقدها  ذات صيف بعد زواجين وختان، يوما قبل شهر رمضان.

كنا أنا وأختي في السنة الرابعة ابتدائي وكانت لنا نوبتان في اليوم. الأولى في العاشرة صباحا والثانية في الساعة الثالثة بعد الزوال وهكذا ينتهي اليوم الدراسي على الساعة الخامسة. كان هذا دأبنا في السنين الماضية حتى جاء خالي بصرامته ونشاطه وقرر أن "مضى زمن النوم يا خديجة" وأن عهد الكسل والدلال قد انتهى فحولنا إلى النوبة الصباحية الأولى.

لم نكن أبدا راضيتين عن الوضع، ولعلنا حاولنا الاستنجاد بأمي، لكن شقيقها الأصغر كانت له الكلمة النافذة على مصيرنا. كما أجبرنا قبلها على أكل خبز مدهون بالزبدة ومقطع إلى أجزاء صغيرة تسبح في كأس حليب بارد مع قهوة ناقصة السكر. وكنا لا نطيق أكل الزبدة ولا الجبن ولا مشتقات الحليب بأنواعها. بل نفضل الموت على أن نضع في أفواهنا ولو شفافة صغيرة منها لكنه خالي بحبه وجبروته وتعنته فمرة يضجعنا إلى جنبه ويرسم لنا أبطال الصور المتحركة ومرة يجبرنا على تجرع علقم الزبدة المغموسة في الحليب البارد! الدرس الوحيد الذي استفدته من هذه التجربة أنني أستطيع أن آكل الزبدة ولا أموت!

لم نكن راضيتين في البداية لكننا سرعان ما تعودنا على النظام الجديد وأحببناه وعجبنا لحالنا قبله. ما أجمل النهوض باكرا، اليوم الدراسي ينتهي في ساعة مبكرة، أليس هذا جميلا؟ وفي الشتاء حين يصير اليوم قصيرا قصر الذاكرة البشرية وسرعان ما تستطيل الظلال وتصير إلى أشباح هائمة في الظلام نكون نحن مستمتعتين بدفء البيت وحضن جدتنا وقهوتها اللذيذة. ما أجمل النشاط والحيوية. كيف عشنا قبلها في العصور الحجرية؟ نستيقظ حين تسكت العصافير ونراجع دروسنا في ساعة متأخرة. شكرا يا خالي حبيب، شكرا أيها الخال الحبيب.

11/01/2016

عائشة (1)




من صور طفولتي التي لا أنساها دموع أمي وهي تطالع بيتنا الكبير وقد صارت حيطانه عارية وأرضه خاوية، دارت عليه رحى القدر فتركته بلقعا تصفر فيه الريح. بكت أمي كثيرا وحُق لها أن تبكي فقد أخرجوها من البيت الذي صبرت على سقفه المترهل وجاهدت الشتاء تلو الشتاء لتحمينا من قطرات المطر المتدفقة من بين الشقوق. بكت لأنهم أخرجوها من بيتها القريب لمعهدها الذي تدرس فيه، لمدرسة بناتها، للمسجد، للمكتبة، للمخبزة، للصيدلية، لبيت أمها وأبيها، لبيت أختها وأخيها. لم يكن مجرد بيت، كان وطنا بخيره وشره.

وعدها أبي بأن يرممه ويبني لها طابقا جميلا واسعا أنيقا فوقه. وكيف لا ومهنته البناء والتشييد. ألم يكن مقاولا فذا؟ بلى إذن سيحقق حلمها. بيت جديد في قلب المدينة في نبض الحياة. لن تحتاج  أبدا إلى مواصلات. ساقاها تحملانها حيثما أرادت واشتهت فكل شيء قريب.

كنت يافعة فلم أفهم عندها ولا إلى يوم الناس هذا ماذا حصل بالضبط حتى وجدنا أنفسنا خارج بيتنا المستأجر. سمعت الكبار يتحدثون عن مؤامرة مدبرة لأن البيت موقعه استثنائي ومساحته شاسعة فكانت أفئدة من الناس تهوي إليه وقد أثار مطامع البعض فاحتال علينا وأخذنا على حين غرة. وما هي إلا طرفة عين حتى وجدتنا نجمع أغراضنا ونرتحل...

كفكفوا دموعكم فهذه ليست قصة لاجئة فلسطينية. فما خرجنا من بيت الناس إلا لنسكن في بيت أبي، بل في قصره، بل في مملكته التي شيدها على بعد أميال من المدينة وبضع دموع. كأنما أراد أن يبتعد عن الأنظار، لم اختار لنا هذا العنوان؟ فلم نعد نحسن الذهاب إلى أي مكان إلا بنقل يسمونه ريفيا أو تاكسي أو حافلة مكتظة بالأنام. لم يا أبي أخرجتنا من "مناطق العمران"؟ المدرسة بعيدة ولا أضواء في الطريق ولا طريق! ولا وجه مألوف ولا صديق.

لكنني في البداية كنت سعيدة جدا بهذا التغيير. بل كان قلبي يختلج بين أضلعي من الإثارة فعجبت لدموع أمي. ماذا لو صار بيتنا أفرغ من فؤاد أم موسى، قد أبدلنا الله خيرا منه. انظري للبيت القديم ما أجمله وهو خاوٍ. كنت منبهرة بهذا المشهد المهيب. عملية جمع الأغراض والغرف التي كانت تفرغ عن آخرها الواحدة تلو الأخرى وكل الأشياء التي لم أكن أعلم بوجودها أو تلك التي لم أعرف مخبأها أو لم يكن يحق لي لمسها، كل شيء صار أمامي، كل الأبواب فتحت وكل الأسرار كشفت وكل الأستار هتكت ولم يبق إلا الفراغ العظيم. كنت أعيد اكتشاف البيت القديم وأتطلع بأعين حالمة إلى ما يخفيه لنا المستقبل من مفاجآت.

لم أعلم بالمعاناة... معاناة الطريق الطويل نحو المدرسة، معاناة أصحاب السوء وتأثيرهم على سذاجتنا المرفهة، سذاجة بنات المدن التي اصطدمت بخشونة الريف أو ما يشبه الريف. أن تكون ابنة المقاول التي تقطن في ذاك "القصر"، أن تلعب دور الطفلة البورجوازية وتسرد على الناس القصص التي يحبون أن يسمعوها لأنهم لا يصدقون غيرها. لا يصدقون أن أباك يعاملك معاملة خشنة ولا يريد لك أن تتميزي إلا بنتائجك الدراسية.

لكن "ما بين القصرين"، قصر المدينة وقصر الريف، هناك "قصر الشوق"، الشوق الكبير إلى أعين عائشة، وابتسامة عائشة وحزم عائشة. ما أجمل تلك الأيام!

Cher journal

Cher journal En ce temps de sécheresse artistique et d'absence de vrais tourments et de réels "problématiques" dans ...