1/25/2017

عن الثقافة والثقفوت




سمعت أن هناك معرضا للكتاب بمدينتي تحتضنه دار الثقافة ببنزرت. ورغم أني أعلم ما ينتظرني إذ كنت قد زرته قبل إلا أني ارتأيت أن أغشاه أيضا هذا العام فهو على مرمى قدم مني فما ضرني أن أتسكع قليلا بين أروقته البائسة. ثم إني أكره يوم الأحد فعسى مصافحة الكتب ورائحة الورق أن تبدد وحشته.

وبما أن قطار الحياة لا يفتأ ينقلنا من محطة إلى أخرى بسرعة نكاد لا نستوعبها، عهدتني أخطو نحو المعرض فريدة وحيدة، ثم رأيتني ألج إلى دار الثقافة وقد صرت زوجين ثم ثلاثة، طفل صغير جاوز حوله الأول، كتلة مني تتحرك أمامي، فتارة تبتسم وتارة تئن وتبكي. وهاهي ذي شابة محجبة بملامح آسيوية تأتي وتأخذ له صورة على حين غفلة مني وقد تركته مع أبيه، لكني غفرت لها لأن ابتسامتها كانت ملؤها الحياء والأدب.

 هل تكون الأخت ماليزية؟ سبحان الله لقد عشت هذه اللقطة بحذافيرها منذ سبع سنين في اسطنبول مع ابنة أختي وهي في مثل سن ولدي، كانت غاية في الجمال والروعة، فقفزت نحوها ثلة من الآسياويات وأخذن معها صورة بابتسامات عريضة عرض البحر. وابني هذا يشبهها حتى لتحسبه أخاها كيف لا وأمه وأمها توأمتان! فعلا التاريخ يعيد نفسه...

يقولون أن الحقيقة تخرج من أفواه الأطفال، ابني لا يتكلم لغتنا بعدُ لكن له لغته الخاصة وهي بليغة جدا ومعبرة حقا وشديدة الفاعلية. فها هو قد أحسن الإبانة عن نفسه فجذب أباه نحو الخارج. لم تعجبه الأجواء داخل المعرض. كيف لهؤلاء الكبار المغفلين أن يتركوا نور الشمس وهي ترسل أنفاسها الدافئة وجمال الأشجار وهي تزين الفضاء الخارجي ليقبعوا في هذا الكهف المظلم، في هذه الكنيسة التي شيدتها فرنسا في عقر دارنا وفي قلب عجزنا وهواننا أيام الاستعمار.ستكبر يا ابني ثم تفهم أنه يصح فيّ قول شيخ العربية أبي فهر طيب الله ثراه "وكنت امرءا نهما يأخذه للكلام المكتوب سعار". وكذلك أرجو أن تكون...

 قد أطلت عليكم في المقدمة، والحال أن جوهر الأمر ليس إلا زجاجا مهينا. لقد وجدت التعاسة والفقر والبؤس بانتظاري، وجدت نفس الطاولة الموضوعة في الواجهة بحيث تعترضك هي الأولى، قد تصففت فيها جنبا إلى جنب إبداعات الفيلسوف العظيم الصافي السعيد وسمادير المفكر المجنون توفيق بن بريك صاحب "الكلب بن كلب" حاشاكم وغيرها من سقط المتاع كمثل رواية "حبيبي داعشي" وغيرها من السخافات. وفي وسط هذه النفايات وجدت بضع بصيص من النور، كتاب لرئيسنا السابق محمد المرزوقي. وأيضا بضع كتب للرائع مصطفى محمود وهي كما تعلمون قصيرة من نوع السهل الممتنع ُيقرأ الواحد منها في جلسة أو جلستين. فما كان سعرها؟ 9 دنانير كاملة.

وبما أني أملك كتبا لم أقرأها بعد وأقسمت على نفسي أن لا أشتري غيرها حتى أتمها فقد خرجت من المعرض وفي يدي كتيب صغير للمنفلوطي بعنوان "الشاعر" ثمنه 2.5د. وماذا بعد هذا؟ الكتب الدينية المكررة للشعراوي مثلا وكتب الدراسة للأطفال وتحفة العروس وتفسير الأحلام وطرد الشياطين والجان وظلمة المكان. فكان هذا المعرض لا يعرض كتبا وإنما تعاسة وفقرا وجهلا بقيمة الكتب، وإلا فما تصلح هذه الأكوام في معظمها إلا لتنظيف زجاج السيارات. وأنا أستثني طبعا الكتب النافعة القيمة .. لكن يال غربة الكتاب في بلادنا. بنزرت مدينة كبيرة عظيمة بتاريخها وسكانها وقربها من العاصمة، أفلا يستحي المسؤولون أن يكون معرض كتابها بهذه الرداءة التي بلغت حد الدمامة قلبا وقالبا؟

لكنه أمر عادي في بلاد لا يتحدث دجالوها من "المثقفين" كلما ذكرت الثقافة، إلا عن الرقص والسينما والمسرح. بل هو العري والفسق والفجور، بل هو التقليد الأعمى والذوق الممرور.  فما رأيت أحدهم يقيم وزنا للكتاب أو يتوجه برسالة إلى الشباب. وإذا أحببت أن تسمع من هؤلاء الثرثارين كلاما قويما أو لسانا فصيحا فأنت كالمتطلب من الماء جذوة نار. فيا قوم استحيوا فإن الحياء من الإيمان واستروا عوراتكم وعواركم كما تستر الهرة ما يخرج منها وتغطيه بالتراب فوالله سئمنا هذيانكم ويئسنا من إصلاحكم ولا حول ولا قوة لنا بكم إلا أن يظهرنا الله عليكم. 


البواكير" علي الطنطاوي"


تحت راية القرآن" مصطفى صادق الرافعي"



1/20/2017

هاتِ قيد الشهادة لأكسره


اعترافات مهندسة على ورق...

"لا تقل أبدا إني مهندس بل قل تحصلت على شهادة الهندسة في عام كذا"

كنت أبحث عن وصفة لإعداد عصيدة البوفريوة حين سمعت زميلتي في العمل تتحدث مع صوت أنثوي وقع في قلبي موقعا حسنا إلا أنني لم ألتفت لتبين مصدره. وما هي إلا صديقتي وزميلتي في العمل حين كنت أشتغل في تونس العاصمة. كنا بنات ثلاثة تم قبولنا في وزارة تشغيل لا تشغل إثر نجاحنا في مناظرة للمهندسين. كانت صديقتي مختصة في الإعلامية بينما كنت مختصة في الإحصاء ... وتحليل المعلومات. زعمت الشهادة!

جاءت زميلتي لإدارتنا كي تضع في حواسبنا برنامجا لرقن المعطيات الخاصة بمسح ما يشمل المؤسسات. وبعد العناق وبث القبل والأشواق مضى بنا الحديث إلى أصدقاء العمل، فهذا أكمل دراسته وحاز على الدكتوراه إلى جانب عمله وهذه تحصلت على ترقية وأخرى ذهبت في بعثة إلى الخارج .... أما أنا ... فجئت بقدمي إلى ههنا، إلى الإدارة الجهوية وحفرت بيدي قبرا لشهادتي العلمية. ماذا تصنع مهندسة في إدارة؟ وماذا عساها تفعل بشهادتها الهندسية؟ ماذا ستهندس وأي مشاكل ستحل عدا الألعاب في صفحات الجريدة اليومية؟

كان قراري بالانتحار المهني  من أصعب القرارات في حياتي فلم أدع استشارة ولا استخارة إلا وأتيت بها وقبلها ترددت شهورا ودهورا. كنت في كل مرة أهم بالارتماء من الجسر ثم أصبر نفسي وأقول علها غدا تفرج لكن الأيام اتصلت بالأسابيع  ولم أر تحسنا يذكر. كنت أنهض كل يوم في الظلام الدامس وأقلق راحة أبي فأوقظه ليقلني إلى المحطة ثم أستقل الحافلة في رحلة يومية بين عاصمة شمال إفريقيا وعاصمة تونس، كل يوم أقوم بهذا السفر المضني من أجل لا شيء. من أجل أن أجلس على كرسي وثير وأكتب مقالات وأطالع صفحات على الأنترنات لكأني صحفية. هذا القلب وما أراد، أحب الأرقام ولكنني أعشق الكلمات. وما دامت البلاد في هرج ومرج والأشغال معطلة وما يأتي وزير إلا ليرحل فماذا عساي أن أفعل؟ فلأقرأ كتبا ولأكتب مقالات. ثم ما أجمل الحرية وما أعذبها من نسمات.

فررت أخيرا إلى بلدي الأم، سئمت التنقل وتلك الصخور التي وضعوها في الطريق، سئمت رداءة الحافلة ومزاج السائق وكآبة الركاب واكتظاظ المدينة وفراغ المكتب من أي عمل ذا معنى. سئمت التعب والتضحية من أجل السراب وطمحت أن أكون أما مسؤولة ولمّا يكن لي رجل في حياتي. لكنها غريزة الأنثى وما جُبلت عليه. منذ أول عمل لي واصطدام بحقيقة الثماني ساعات شغل يوميا تساءلت ما مصير عائلتي المستقبلية؟ متى سأعتني بنفسي وزوجي وولدي؟ لا أظنني وُلدت بقدرات خارقة، إذا فكيف سأوفق بين عملي وعائلتي؟ كيف سأغيب الساعات الطوال عن طفلي؟

استرجعت هذه الذكريات وأنا أسمع صوت زميلتي السابقة في المكتب المجاور، وتذكرت ذاك الشاب الوسيم وسامة أوروبية حين جاء مع خطيبته لتزور أختها، زميلتنا في السكن. تذكرت كلماته التي بدأتُ بها هذا المقال. كان مهندسا متخرجا للتو يخطو خطواته الأولى في عالم الشغل الحكومي. قال تلكم الكلمة التي حفظتها ومضى. وخبأتها الأيام في ذاكرتي ثم فاجأتني بها... فعلا لا تقل إني مهندسة، لا تتكبر بالشهادة، شهادتك هي فقط كلمة العبور لباب من أبواب الشغل، أما الشغل في ذاته فقد يكون نصف مهندسة أو ربع مهندسة أو ذرة مهندسة. لكنك أنت لست شهادتك ولست عملك، وكم من مهندس بلا شهادة ومن شهادة ولا مهندس! 

أنت فكرك الحر، أنت الأشياء التي تحبينها،  أنت الأعمال التي حين تفعلينها تفرحين، أنت الخدمات التي تقدمينها للآخرين، أنت الأسئلة التي توجهينها للكتب والأجوبة التي تقطفينها من الكُتاب، أنت السمفونية التي تعزفينها بقلمك وخواطرك التي لا تكاد تفارقك، أنت ميولاتك ومواهبك، أنت كل إضافة جميلة في وطن الإنسانية. أما الشهادات والخطط الوظيفية فهي كالأشكال الهندسية نحدها ولا تحدنا. لا تدعي لليأس سبيلا،  ابحثي عن الشيء الذي تحبينه وافعليه، ابحثي عن الطريق الذي ترومينه لحياتك واسلكيه، ابحثي عن أسباب السعادة أما القلق فاطرديه. سعادتك بإنجازاتك وإنجازاتك هي حياتك وحياتك هي إبداعاتك وابتساماتك وأنفاسك التي تنفقينها بسخاء على أهلك وأحبابك. هات قيد الشهادة واكسريه وطيري بجناحيك إلى حيث يبدأ الحلم.


لكل إنسان ميزة خاصة ..شغف خاص به .. 
طريق خاص به .. 
 الظلم هو أن تترك نفسك لتمشي مع الناس..
شمس التبريزي


1/13/2017

الشهادة لا تطبخ




منشطة برنامج طبخ يستضيفونها في منوعة بنفس القناة التي تستلذ استضافة منشطيها بعضهم البعض في برامجهم المختلفة كأن الله لم يخلق سواهم، أو كأن المتفرج لم يمل من طلعاتهم البهية. امرأة في مقتبل العمر بلغ منها ضعف الجسم ودقة العضم مبلغا جعلك لا ترى من وجهها إلا الأنف بارزا شامخا والفم مكتنزا اكتنازا يثير الشكوك. لها من الشهادات الجامعية ما يكفي رجلا وامرأتين حازتها بالجد والكد من جامعات فرنسية، شهادات في اختصاص يرضي والديها وأخرى في الطبخ الذي يرضي ميولاتها الشخصية.

 تسمعها تتحدث عن الطبخ وفنونه وتأتي فيه بالكلام المنمق والقول المتأنق فتقول ما أسعد زوجها وأولادها وما أهنأهم بها. لا بد أنها تصنع لهم في كل يوم من السنة لونا جديدا من الطعام تلبسه المائدة وتضفي عليه من حبها وتنفخ فيه من روحها وجودة صنعتها. تراها في برنامجها لا تكاد تصمت وتجعل تسأل طباخ اليمين وطباخ الشمال عن البهارات التي يجب إضافتها وعن الزبدة كيف ينبغي إذابتها و... و...و... ، فلا تملك إلا أن تضغط على ذلك الزر العجيب في آلة التحكم عن بعد، الزر الذي يتمنى كل الرجال لو وجد في زوجاتهن، فتريح رأسك من ثرثرتها وتتابع الوصفة بسلام.

هذه المرأة العصرية الأنيقة الذكية سألها زميلها سؤالا تافها بديهيا: ماهي أفضل وصفة تعدينها؟ ما هو ألذ طعام تصنعينه؟ فأجابت بأن ليس لها نوع معين تجيده. فظننتُ أن هذي طريقتها المتواضعة في زعم أنها تجيد كل فنون الطبخ فما إن تضع يدها في قدر إلا وتأتي بالعجائب حتى لو لم يكن في القدر إلا فلفل وطماطم! لكن المنشط المحترف لم يشبع من هذه الإجابة الهزيلة فأتاها بالقاصمة : ما هو الطعام الذي حين تطبخينه يُسر زوجك به ويُعجبه؟ فكأنما أحب أن يترجم لهذه البليدة الفهم سؤاله الأول. فما تحسبون صاحبة برنامج الطبخ وشهادة الطبخ قالت يا إخواننا؟

أنا مثلكم أعددت أذني لسماع اسم من أنواع الطعام لكن الفنانة التي تتفلسف في معاني الطبخ كعلم وفن وترتجل في ذلك القصائد العصماء قالت وهي تتضاحك كالبلهاء: أنا لا أطبخ لزوجي، ليس لدي الوقت لذلك فأنا أعمل كثيرا. ومن جملة أعمالها نادي المسرح الذي لا تستطيع التخلف عنه ولو لأسبوع واحد لأنه أصبح ضروريا لحياتها الثمينة. أما زوجها المسكين، الذي غرته الشهادات والوجه القسيم، إذا جاع فليذهب إلى المطعم أو إلى الجحيم. وأما الأولاد فلا تسل، لا أحد فكر فيهم أو استنكر إهمالهم. كنت أحسب الكاريكاتور صورا على ورق فإذا به صار امرأة من لحم ودم تنظر وتتكلم ولا تستحي. لم تقل أنها تطبخ لزوجها نادرا أو مرة في الأسبوع بل قالت لا أطبخ لزوجي وأزيد لا أطبخ لأحد ولا حتى لنفسي.

طبعا لم يعلق أحد من الحاضرين ولم يستغرب من هذا التضارب الشنيع. بل واصل المنشط أسئلته التافهة وكأنه أمام خبيرة في التغذية فسألها ما نصائحها لتغذية سليمة ولتجنب الوزن الزائد. فأجابت الحكيمة حمارها بأنها ببساطة لا تأكل إلا إذا وجدت أمامها (هكذا طائرا في السماء حاطا على مائدتها) طعاما شهيا، فإن لم تجد فهي لا تأكل، فذاك سر رشاقتها. حسن يا أختنا فما يصنع الذي يجد أمامه دائما طعاما شهيا لذيذا تعده أيادي أمه الحانية أو زوجته المحبة؟ إذا اتبع نصائحك العبقرية صار كالبرميل يا ذكية.

وكالعادة لم يعلق أحد على هذه السخافات المتراكمة. هذا زمان ينطق فيه الرويبضة في مصائر البلاد والعباد فما بالك بامرأة لا تطبخ أبدا ثم تأتي لتتحدث عن الطبخ. امرأة قالوا لها أن قمة التمدن والتحضر هو أن تحرزي أعلى شهادة في الطبخ من أرقى الجامعات ثم لا تطبخي لزوجك وولدك لأنك مشغولة بأعمالك الكثيرة أعانك الله عليها. وأن تفرغك لذاتك والنزول عند كل رغباتك واستيفاء جميع شهواتك أهم وأغلى من طعام تصنعينه بيديك المحبتين لعائلتك التي سوف يسألك الله عنها ورعيتك التي كُلفت برعايتها. 

 والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده، وهي مسؤولة عنهم

وكما يقول المثل الصيني لا تقل لي إنك تعلم كيف تطبخ السمكة بل اطبخها لي! ولا تعلمني فن الطبخ بل علمني فن الحياة. علمني كيف أنزع ثوب الفرد وألبس حلة الجماعة، علمني العطاء والإيثار من أجل الزوج والدار والصبر على حمل مسؤولية الصغار. علمني كيف أكون امرأة حقيقية فيها معاني الحب والصبر وكل كمال في الأخلاق وجمال في الإنسانية. علمني كيف أكون أما لزوجي وأختا وبنتا وصديقة وفية. علمني كيف أصير سيدة قومي فقط بقصعة طعام أعدها بحب وفن وحنية. علمني كيف أعود امرأة فقد أجهدتني ثورة البخار وصيرتني قشورا وألوانا وغبار.

أليس سيد القوم خادمهم؟ ألا ليتنا تعلمنا مكارم الأخلاق  وفن الحياة من الرسول الأكرم، كان في مهنة أهله (وهو من هو في حمل الرسالة وهمومها) فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة. صلى الله على محمد، صلى الله عليه وسلم.

Cher journal

Cher journal En ce temps de sécheresse artistique et d'absence de vrais tourments et de réels "problématiques" dans ...