10/26/2018

فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيد


كتبت حفيدة علي الطنطاوي عابدة المؤيد في تدوينة لها بتاريخ 17 أكتوبر 2018 تقول: " يا للهول؛ لقد بلغت السادسة والخمسين اليوم !كنا إذا مررنا في جنازة ونحن في طريقنا من المدرسة إلى البيت، أو قرأنا نعوة ألصقوها على الجدران وأعمدة الكهرباء (كما هو الشأن المألوف في دمشق) أو سمعنا من الكبار أن فلاناً المتوفى "مات شاباً وهو ما يزال في الأربعين من عمره" نضحك كثيراً رغم رهبة الموت؛ إذ كنا نعد من تجاوز الثلاثين كهلاً، فكيف بمن زاد عليه عقداً من الزمن عليها أو عقدين؟

وبلغت هذه الأعمار أنا ومن حولي وتجاوزتها، ولم أجدها شيئاً!؟ وعرفت أن المرء لا يشعر بالشيخوخة ولا يحس بالهرم، ولا يدرك كم لبث في الأرض عدد سنين، إلا إذا وقف أمام المرآة"

أوافقها تماما ولا أشك في صدقها إذ خبرت بنفسي صحة ما قالت. كل سن أراه كبيرا حتى إذا وصلت إليه لم أجده شيئا. أبرز مثال يقفز إلى ذاكرتي هو حين كنت طفلة في التاسعة أو العاشرة تقرأ مغامرات المفتشة الفرنسية الشقراء "أليس غوا". وفي إحدى كتب السلسلة تحدثت عن ولد في عمر الخامسة عشر. حينها تخيلت شابا كبيرا واعيا فهيما وبدا لي ذاك السن شيئا عظيما. فما هي إلا عشية أو ضحاها حتى بلغته فلم أجده شيئا وعجبت لسذاجة الطفولة.


ولي أخت هي أكبر مني بخمس سنين ونصف. حين بلغَت الخامسة والعشرين بدا لي كأنها نهاية الدنيا. وسألت مرة زوجة خالي الشابة عن عمرها فأجابتني بفخر: عمري ربع قرن. وبما أن القرن مقرون في مخيلتي بالتاريخ العظيم والسنين الطويلة فقد بدا لي أنها بلغت من الكبر عتيا. فبلغت الخامسة والعشرين وجاوزتها ولم أجدها شيئا.

بل إني صرت أرى المراهقين حين أمر بهم أطفالا مفاريح مماريح لا يزالون يعيشون في عالم الغفلة والآمال العريضة. لا تكلفهم الحياة سوى مسؤولية الدراسة والمذاكرة. على أنهم طبعا أطفال كبار تعتريهم أمواج عاتية من الشهوات والشبهات والخيالات اللذيذة. 

أذكر ولا أنسى عطلة الصيف حين نجحت في امتحان السنة السادسة ابتدائي. أتدرون ما فعلت؟ كنت أظن بل أوقن أنني حتما سأموت قبل حلول العودة المدرسية. لم أكن لأتصور أني سأعيش حتى أدخل المعهد وأقتحم المجهول وأجرب نوعا جديدا من الحياة وأضع قدمي في عتبة الشباب. أعجب لأفكاري الغريبة وأنا أكتب هذه الكلمات، لكنها الحقيقة.

 ثم مَه؟

ثم كبرت وأنهيت دراستي وجربت العمل ثم الكتابة والتدوين. وبسببها رُزقت الحب والزوج والسكن. وعشت فوق سحابة الحلم ثم كُشف الحجاب فعانقت الحقيقة وعرفت ربي وعجيب صنعه وما خلقه من العدم...هن لباس لكم وأنتم لباس لهم... واللباس هو الدفئ والراحة والأمن وهو الجمال والستر والعفاف، فياله من إعجاز!

وظننت أني قد عرفت واكتفيت فجاءت الأمومة بحَملها وحِملها وحُلمها. أمومة أجلتها حتى إذا ارتشفت حلاوتها لكأني عشتها حياتي كلها. كان جسمي مسرحا لمعجزة ربانية تتجاوز مداركي البشرية. كنت بالكاد أصدق أني أحمل في بطني ولدا سيخرج إلى الدنيا لأكتشف ملامحه في يوم شتوي قريب.

واقترب الموعد وأنا أترقب وأخاف. أنا من النوع الذي يهاب كل ما له علاقة بعالم النساء الرهيب. أخاف من الرجل قبل أن أعرفه ومن الحلاقة حين تهم بنتف شعري  ومن زيارة الطبيبة ومن... غرفة الولادة طبعا!

من أجل ذلك حين اجتزت بوابة الولادة بنجاح ورأيت ابني يخرج للدنيا في لحظة سريالية لا تمحى من ذاكرتي عندها قلت لنفسي: أمَا وقد جاوزتِ هذا السور الذي له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب فما بقى لك إلا شيء واحد: الموت نفسه. ألا وإن القفزة القادمة ستتكشف لك فيها الحجب جميعها يوم تقوم قيامتك. هكذا بكل بساطة يمر البشر في كل حين وآن من الحياة إلى الحيوان.  لكننا لا نرى ولا نسمع ولا نبصر. حتى المآتم نفسها تقام فيها الموائد ويضحك الغافلون ويتشدقون بالكلام. وسبحان خالق الأكوان.

منذ شهر بلغت السادسة والثلاثين ومنذ عام كتبت: "عجلة الزمن صارت تجري بسرعة جنونية بات من السخف الوقوف عندها". يومي كحسو الطائر. عمري قد اتخذ الليل جملا، ركبه ولم ينم فيه بينما أنام أنا على أريكة الغفلة متدثرة بغطاء التسويف ملتحفة عباءة التقوى. اللهم أصلحنا!



10/04/2018

تسول 5 نجوم




من عجائب هذا الزمن أن تتطور جميع المهن حتى مهنة التسول المحترمة. ومن ذلك أن ترى امرأة شابة مكتملة الجسم والصحة  تجلس على قارعة الطريق تهتف بالمارين تستوقفهم تبادرهم بتلك الكلمة السحرية المشهورة في صفوف الشعب التونسي الأبي : "سامحني". تسمعها خاصة في أماكن الازدحام حين تدعسك رِجل أحدهم في حافلة أو قطار أو سوق مكتظ أو حتى مخبزة! تستعمل صاحبتنا هذه الكلمة لتستوقف ضحاياها ولتبدأ حوارا ما ينتهي بأخذها بعض النقود من أحد المغفلين المساكين.

ولا تظنن أنها تتربع على الرصيف تتعرض لنفحات المسكنة والبؤس بل هي تجلس جلسة محترمة في درج صغير أمام بيت مثلا. تبدو للوهلة الأولى كأي مواطنة صالحة قعدت لتستريح ثم تواصل المسير. لكني حين رأيتها اليوم وأنا أحث الخطى إلى مقر عملي قلت سبحان الله. يا للوقاحة! فهي لا تبحث عن اللقمة الباردة فحسب بل تبحث عمن يضعها في فيها دون أن تحرك ساكنا. مرحبا بكم يا سادة هذه آخر صيحات الشحاذة. لم العناء والوقوف لساعات أو التسكع في الشوارع تحت الشمس الحامية؟ لم التعرض لدفقات المطر الباردة؟ أنا أجلس والزبائن يأتون عندي ويقفون على "بابي" ويدفعون لي. أليست هذه عبقرية؟

Cher journal

Cher journal En ce temps de sécheresse artistique et d'absence de vrais tourments et de réels "problématiques" dans ...