4/17/2018

وما أثقل من رضوى؟




18 مارس 2018

أنهيت منذ يومين كتاب "أثقل من رضوى". كان وقعه شديدا على نفسي حتى لكأنني رأيتها في المنام أو عشت ما عاشت بطريقة ما لا أدري. أحببتها كما لم أحبها من قبل بفضل هذا الكتاب. قرأت "الطنطورية" وهي رائعة من روائع الأدب زاد من رفعتها الجرح الفلسطيني والذاكرة التي لا تنسى. ثم استزدت فقرأت لها ثلاثيتها الشهيرة الخالدة خلود غرناطة في التاريخ. كان لدي بعض الاحترازات رغم أن الجزء الأول قمة في الإبداع. لكن مهلا، هذه رضوى الكاتبة الناجحة أم تميم البرغوثي الشاعر الشاب وزوجة مريد الشاعر والأديب وصاحب رائعة أخرى من روائع الأدب الفلسطيني : "رأيت رام الله". كتبت مراجعتها هنا.

أما أنا فقد رأيت رضوى في هذا الكتاب وعرفتها كما لم أعرفها من قبل. لم تكن سيرة ذاتية بقدر ما هي أولا سيرة ثورة مصرية ووطن. يبدو أن الكاتبة فعلا إنسانة في جوهرها، بل هذا أفضل وأوكد تعريف لرضوى: هي إنسانة قبل كل شيء. لم تشأ أن تسلط الأضواء على حياتها فقط بل شغلت نفسها بتوثيق مجريات الثورة ووقائعها كما عاشتها وتفاعلت معها.

أحببت كثيرا الجزء الذي تحدثت فيه عن صغرها وذكريات طفولتها في المدرسة. وددت لو تمادت أكثر في هذا الحديث الشيق لأنه شهادة على حقبة من التاريخ المصري الحديث ثم لأننا جميعا نحن إلى عهد الطفولة الأولى وذكريات الصبا.

أحببت أيضا الفصل المخصص للحديث عن الكتابة وكيف كانت جالسة في عطلة صيف ثم نهضت لتكتب أول جملة في روايتها "فرج". هكذا كتبت دون سابق إصرار ولا ترصد!

تألمت لألمها وشعرت بمعانتهم (هي وحبيبيها) وهي تسرد أدق تفاصيل مرضها ورحلة العلاج والغربة الطويلة إذ اضطرت لتعيش أولى حلقات الثورة المصرية وهي بعيدة عن وطنها لأن "برتقالة" صغيرة نبتت في رأسها.

رضوى لها أسلوب فريد في الكتابة. لا تلجأ بتاتا إلى تهييج العواطف وتسول الدموع واستثارة الشفقة. هي "ذكورية" جدا في كتابتها وهذه هي شخصيتها. فإذا وجدت نفسك تبكي أيها القارئ العزيز فهذه فقط مشكلتك. أما هي فلم تفعل شيئا سوى قول الحقيقة، بلا زخارف ولا نقوش ولا صور شعرية. لكن الحقيقة وحدها تكفي كي نضحك أو .. نبكي! كما يقول الفنان المشاغب الذي دوخ فرنسا Dieudonné ما معناه: "أنا لا أفعل شيئا سوى قول الحقيقة وهي لسخفها كفيلة بإضحاك الناس"!

لاحظت أيضا كم تستعمل رضوى الجمل القصيرة. بل هناك جمل مؤلفة من كلمة واحدة أو اثنتين. وهي تنقل الوقائع أحيانا بلا تعليق خاص من لدنها. فكثيرا ما تكون مشاعر الخوف والألم واضحة لدرجة لا يصلح معها ترصيف الكلِم. تصف كثيرا الأماكن والأزمنة والظروف والوجوه لكنها لا تستفيض أبدا في وصف المشاعر. بل إنها أحيانا تبالغ في وصف أماكن في مصر على طريقة "غوغل ماب" وهو أمر لا يضيف للقارئ شيئا يذكر عدا إحساسه بعشق هذه المرأة لبلدها!

مشكلتي مع هذا الكتاب أنني حين أنهيته لم أودع كتابا إنما ودعت كاتبة فذة وإنسانة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. كونها كتبته في أواخر حياتها وهي تحس ربما بدنو أجلها، يضفي عليه هالة خاصة. تمنيت لو كنت من طلابها فنعم الأستاذة هي. أو لو أرسلت لها رسالة معطرة بحب تونسي أصيل.

تمنيت لو تحدثت رضوى أكثر عن رضوى. أما أحداث الثورة المصرية فقد ضقت بها ذرعا في البداية لكن سرعان ما أدركت كم من المهم والضروري توثيقها في كتاب وإن كان سيرة ذاتية.

رضوى أبكتني في موضع واحد: طالب سابق ثم زميل على فراش المرض بل الموت يطلب من الممرضة ورقة وقلما لأنه لا يقوى على الكلام. فماذا كتب؟ "أحضري كرسيا لأستاذتي"!

يقشعر بدني وتندى عيني وأنا أنقر هذه الكلمات في لوحة المفاتيح. ربما لأن أمي أستاذة أيضا. ربما لأني كنت أحلم بأن أصير أستاذة جامعية. ربما لأن الموقف ببساطة حزين وجميل. ربما لأن هذا الكتاب يصف جرح مصر النازف.

الآن أفهم أكثر تلك الصورة الكئيبة لمريد وتميم وهما بجوار رضوى الجسد ... حين ارتفعت روحها لترفرف عاليا فوق سماء الجمال والأدب. رحمها الله رحمة واسعة فقد كانت أستاذة وإنسانة وفنانة وقدوة لكل من تحلم بأن تحمل القلم وترسم به طريقها على صفحة هذا الوطن وتخلد اسمها بين طيات الزمن!



4/13/2018

أيام من حياتي



أنهيت للتو كتاب " أيام من حياتي" لزينب الغزالي. التهمته في يوم واحد تقريبا. عصفت بي تجربة زينب في سجون جمال عبد الناصر أيما عصف. لو عاشت هذه المرأة العظيمة زمن النبي لكانت اسمها سمية، ولو عاش فرعون مصر وقتها لكان اسمه أبا جهل "فرعون هذه الأمة". إلا أن حربته الهوجاء اصطدمت بإرادة زينب الصلدة الصماء.

لقد قرأت من قبل رواية أيمن العتوم الرائعة في فظاعتها "يسمعون حسيسها" وتابعت جلسات الاستماع العلنية لهيأة الحقيقة والكرامة بتونس فظننت أنني مهيأة لألوان العذاب التي سأقرأ عنها في قصة زينب وشهادتها الحية للتاريخ كما عاشته وعانته. إلا أن جحيم السجن الناصري كان يخفي في جعبته مقالب أخرى لا يجرأ الشيطان على التفكير فيها. ثم إننا هنا لسنا بصدد شابة في مقتبل العمر (مع ما في ذلك من بشاعة أيضا) بل نحن نتحدث عن سيدة وقور في الستين من عمرها، داعية إلى الله على بصيرة. عجبت لشجاعتها وقوة عزيمتها وصدق إيمانها. فمذ دخلت إلى السجن أطلقوا عليها الكلاب الجائعة وتركوها لتنهش لحمها في غرفة مغلقة! لكنها في أحلك الظروف ما تفتأ تذكر الله وتسأله العون والثبات وقد حدثت معها عدة كرامات بل رأت الرسول عليه الصلاة والسلام أربع مرات. هذه سيدة أوصى عبد الناصر شخصيا بأن يعذبوها أكثر من الرجال. سبحان الله كان يكرهها كرها مرضيا.

تفهم من هذه الشهادة الحية كم أن الطغاة أقزام فرغم تجبرهم وجبروتهم وسلطانهم ومظاهر القوة والأبهة الفارغة إلا أنهم يعيشون في خوف دائم بل في هلوسات لا أساس لها من الصحة وعساه من عذابهم المعجل في الدنيا قبل الآخرة. من أجل ذلك تراهم يبطشون بمن يخالفهم ويتخيلون ألف محاولة لاغتيالهم أو الانقلاب عليهم فلا يبالون بسجن الألوف وقتل العشرات بل وإبادة قرى بأكملها من أجل أن لا تميد الأرض تحت أقدامهم.

فمثلا كانوا يطلبون من زينب أن تعترف بأنها كانت وسيد قطب وغيره يخططون لقتل جمال عبد الناصر. وعبثا كانت تجيبهم بأن قضيتها أكبر من الأشخاص وأنها إنما تسعى لتربية وتهيئة جيل من الشباب المسلم لإقامة شريعة الله يوما ما قد يطول الزمن قبل الوصول إليه إلا أن زبانية الطاغية وجنود فرعون أبوا أن يصدقوا هذا الكلام.

طبعا كان منهم الكفرة الفجرة يقولون لها أين ربك لم لا ينقذك؟ ويعدونها بالدخول إلى جنة رئيسهم إذا انصاعت لأوامرهم وبأنها ستخرج للتو من ذاك الجحيم لتتسلم مقاليد وزارة الشؤون الاجتماعية. يريدونها أن تبيع آخرتها بعرض من الدنيا لكنها صمدت صمودا يعز على أعتى الرجال فما أعجبها!

من المواقف التي لا أنساها حين أرادوا تعليقها طلبت بنطلونا فأعطوها إياه، أما نحن في تونس فيعلقون النساء عرايا. لا أدري إن شفع لها تقدمها في السن أم أن هؤلاء القساة لهم شيء من تدين ثقافي يفوق حالنا هنا. ثم لا أنسى حين وضعوها في غرفة وأدخلوا عليها ماردا ليدنس عرضها فما إن تركوهما حتى لاطفها وناداها يا خالة ولم يمسها بسوء فكان جزاؤه الرمي بالرصاص. ثم أتوها برجلين اثنين وكانت الخطة أن يتناوبا على الاعتداء عليها. فما إن اقترب الأول حتى أمسكته من رقبته بكلتا يديها وأنشبت أسنانها في  لحمه فأردته جثة هامدة ! أي نعم يا سادة. رغم الإعياء والتعذيب والتجويع والأقدام المتورمة إلا أنها أوتيت قوة اللبؤة حين تنافح عن صغارها. فأكرمها الله وذاد عن حياضها.

في هذا الكتاب تعايش الأجواء التي "حوكم" فيها سيد قطب ولحظاته الأخيرة مع أخته وزينب في السجن والمساومة الأخيرة قبل إعدامه ظلما وزورا. ثم تستشعر كم أنها نعمة عظمى أن تطالع كتاب "معالم في الطريق" وأنت آمن في سربك معافى في بدنك لك قوت يومك تجلس على أريكة وترتشف الشاي بينما في وقت زينب كانت هذه تهمة في حد ذاتها فنحمد الله على نعمة الحرية التي أتت بها الثورة التونسية رغم تعثرها وكفى جحودا وكفرانا لآلاء الله.

هذا كتاب عظيم عظم التجربة التي يرويها بلغة جميلة واستشهادات كثيفة  ورائعة من القرآن الكريم. عيبه الوحيد التكرار. كنت أفضل أن تلخص الكاتبة بعض الأمور التي تتكرر كالاستجواب بنفس السؤال ونفس الاتهام ثم التعذيب فالمستشفى ثم التعذيب مرة أخرى فالمستشفى وهكذا في حلقة مفرغة تصيب الإنسان بالجنون إذا عاشها وبالملل إذا قرأها.

هذه امرأة انتصرت على الكلاب والقساة والتعذيب بالماء والنار والسياط ولم تقل إلا الحق. بينما يتهاون بعض الناس في الكذب ليل نهار في أمور تافهة، تحسبونه هينا وهو عند الله عظيم. سيد قطب لم يشأ أن يكذب لينقذ نفسه من حبل المشنقة والناس تكذب كل يوم ثم تزيد في الكذب إذ تسميه كذبا أبيض.

رحم الله زينب الداعية وجعلها في الفردوس الأعلى مع الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. ورحم الله الشيخ المشاغب وجدي غنيم إذ سمى فرعون مصر جمال العبد الخاسر. وحسبنا الله في تزوير التاريخ وكذبه. أنى ينصر الله المسلمين بمثل هؤلاء السفاحين المصابين بجنون العظمة؟ لا عجب إذن أن تنتكس الأمة في ماي67. لك الله يا فلسطين ! نحتاج إلى تحرير أنفسنا قبل أن نحررك ولكن نصر الله آت لا ريب فيه والأيام دول، فلنعمل قدر جهدنا والله ولي التوفيق.

Cher journal

Cher journal En ce temps de sécheresse artistique et d'absence de vrais tourments et de réels "problématiques" dans ...