قد يتفق
لي أن أقتحم بعض محال البرجوازية ولست منها، حيث تتجاور الفساتين الفاخرة التي
يبلغ سعر الواحد منها مرتب موظف محترم في إحدى الإدارات. هناك حيث تتصنع البائعة
ابتسامة صفراء وتغمغم ب "مرحبا بك في كل وقت" وهي تتمنى سرا ألا ترى
مجددا هذا الوجه الفضولي البغيض المتلفع في رداء أظلم ولا يبدو على سيمائه أنه يطيق شراء أهون القطع في هذا
المحل. وفاتها أن المظاهر خداعة ولكن لا علينا.
هناك إذن
وجدت امرأة وأمها تبحثان عن فستان سهرة للأم. المرأة قد جاوزت الأربعين بكثير أو
قليل وعلى رأسها قبعة سخيفة. بدا لي جليا من لباسها
الفاضح وكثرة رطانتها بلسان الأعاجم أنها من مواطنينا بالخارج. وأما الأم فهي عجوز
متمدنة تلبس بنطالا وتضع غطاء رأس قد يسميه البعض حجابا. لكني لا أسميه كذلك استنكافا
أن أغمس مداد قلمي في كذب مفضوح وتهافت صريح.
اختارت
العجوز العصرية المعتنقة لدين الإسلام التونسي (قد أتاك ذكره في رسالة سابقة)،
اختارت ثوبا رائعا غاية في الروعة وجربته على بدنها ثم خرجت ترفل في أمتاره سابحة
سباحة خرقاء. استرقت النظر إليها فكدت أفغر فاي من العجب العجاب.فإلى جانب كبر
سنها فهي لم تؤت جسما طويلا عريضا يحتمل مثل هذا الفستان الذي يصلح لغادة في مقتبل العمر أو عروس في حفل
زواجها. ثم إنه كان موشى بزينة بديعة من الأسفل فلا يتأتى قص متر من القماش المحلى
بأنواع الزينة والجواهر فقط ليصبح ملائما لقامتها. ولن يكون ذلك أبدا بأية حال.
أحسست أني شاهدة على جريمة ضد الجمال. فستان سهرة رائع يُقبر على بدن عجوز رقيقة
الجسم دقيقة العظم خفيفة العقل والوزن فقط لأنها تملك ثمنه؟ دون اعتبار لمدى
مناسبته لسنها ولبدنها؟
لو كنت
مكان البائعة لأشفقت على هذا الفستان من الاغتيال ولأخلصت لها النصح ولحاولت جهدي أن
أوجهها إلى شيء أكثر عقلانية. لكن كما في المثل "يبيع االقرد ويضحك على
شاريه" (وما أكثر بياعة القردة في جميع الأسواق وأولها سوق الصحافة والإعلام
وتسويد الصحائف بالأقلام). ليس هذا ما
أزعجني فلتفعل بنفسها ما تشاء. إلا أن سلوك الابنة المقيت هو الذي أثار حفيظتي.
كانت تتجول في المحل وتتكلم بصوت عال. فتارة تغلظ اللهجة لأمها آمرة إياها أن
تختار بسرعة لأنها مستعجلة ولديها أمور تنتظرها. وتارة توجه كلامها للبائعة بأنها
اشترت من عندها في العام الفارط فساتين بقيمة أربعة ملايين. يا الله ما هذا التبجح
والتفاخر والتهافت والتكاثر وكأنها طاووس ينفش ريشه ويختال في مشيته؟ من أي أديم سُوِّي
وجه هذه المرأة حتى ترفع عقيرتها بلا حياء؟ أهذه تربية فرنسا؟ أهذا نتاج الحضارة
التي لم يُر مثلها في البلاد؟ زعموا!
ثم إني أحسست،
وأستغفر الله إن كنت خاطئة، أنها تزدريني وتشمئز من طلعتي. ربما لا تحب أن ترى
الغرابيب السود أمثالي. ربما ارتضعَت لبان هذا النفور من ثدي فرنسا حامية حمى الحرية والذائدة
عن حياض العلمانية، دين اللا دين. فرنسا التي فضحها الله في مشارق الأرض ومغاربها
بتلك الصورة المخزية المزرية لامرأة مسلمة تنتهك حرمة جسدها وتغتصب إرادتها الحرة
باسم الحفاظ على مبادئ العلمانية. ألا لعنة الله على الظالمين.
ولكن مهلا، لقد هُتك الستر عن وجه الهُولة القبيح وبدت
لمن لا يعرفها في كامل عُوارها ودمامتها. هكذا بلا رداء ولا عطور باريسية. هُولة
مفزعة برائحة خبيثة دوخت العالم بذَفرها وبسوء مطلعها. لأنها كما قال شيخ العربية
وفارسها المغوار المنافح عن لغة الأمة ووجودها منافحة الصناديد، محمود محمد شاكر
رحمه الله وجزاه عنا خير الجزاء، "لأنها حضارة قائمة على المنفعة والسلب ونهب
الأمم وإخضاعها لسلطانها المتحضر". لله درك يا معلمي. هو ذاك والله. هاهي
فرنسا تخضع امرأة مسلمة لحكمها الجائر، كأني بها تخاطبها:
"يا أيتها
الأَمَة الذليلة عليك أن تخضعي إلى سلطاني المتحضر وتعرضي جسمك بضاعة رخيصة على
شاطئ الفسق والفجور. ستركعين بقوة الشرطة المدججة بالسلاح وبقوة الغرامة التي
ستدفعينها من جيبك. "
كأنها حرب صليبية أُعيد إحياؤها من جديد، تستهدف الرؤوس والفلوس. وحسبنا الله ونعم
الوكيل. هذا صُنْعُ فرنسا وهذه صُنِعت في فرنسا، فما صنعتم أنتم أيها المسلمون في
بلاد الإسلام؟ أي أجيال أعددتم لمجابهة هذا الخبال؟ ويا إخواننا في أبغض البلاد
إلينا، ما صنعتم في فلذات أكبادكم الذين يشبون ولا يحسنون قراءة كتاب الله
بالعربية؟ هل من هجرة إلى الله ورسوله وقد كثر البلاء؟ اللهم أعنّا على تغيير ما
بأنفسنا. اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن ونعوذ بك من العجز والكسل ونعوذ بك من
الكفر والفقر، ونعوذ بك من غلبة الدَين وقهر الرجال!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق