الذين
تابعوني مؤخرا يعلمون مدى اهتمامي باللغة العربية. كنت كمعظم الغافلين لا أعي مدى
خطورة اللغات في حياة الأمم وفي حياة أمتنا على وجه الخصوص. كان الأمر في البداية
لا يعدو أن يكون مجرد حنين طفولي إلى الزمن الجميل. ثم هيأ الله لي من زادني وعيا
بهذه القضية، وفتح بصيرتي على الحقيقة المرة، على الانفصام العظيم والشرخ الجسيم
الذي أحدثه الاستعمار الفاجر في لغتنا وديننا وثقافتنا. فتح بصيرتي على تلك الجمل "البسيطة"
والكلمات "الظريفة" التي يحلو لنا مضغها دونما انتباه إلى جذورها
الإفرنجية. فانظر إلى رطانتنا بلسان الأعاجم فلا نحسن نقول جملة بالعامية إلا وقد
حشوناها بكلمتين أو أكثر من اللغة الفرنسية. فهل سمعتم يوما فرنسيا يدع لغة آبائه
ويستعمل كلمات بالعربية؟ هل رأيتم يوما
لافتة إشهارية في عاصمة أوروبية تحمل حروفا لاتينية وأخرى عربية؟ هل سمعتم برنامجا
إذاعيا يدندن فيه المقدم بألفاظ عربية؟ لكن أسفي على ثقفوتنا وحدثوتنا ونخبوتنا
يقيسون مدى تمدنك بمدى إتقانك واستعمالك للغة أقوام آخرين، بل للغة المستعمرين. فيا
عجبي والله.
وبعد أن
انكشفت عني غشاوة من العمى زادني الله كرما فهداني إلى طريق الرسالة الغالية التي بعثها
شيخ العربية وفارسها المغوار محمود محمد شاكر إلى شباب الأمة في كتابه النفيس "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا". ثم رأيتني
قاربا صغيرا يمخر في عباب بحر كتابه "أباطيل وأسمار" وأنا بصدد الغوص
فيه والنهل من منبعه الصافي دون كلل ولا ملل، بل رويدا رويدا وعلى مهل. وكثيرا ما
دونت في دفتري بعض الألفاظ الجديدة والتعابير الجميلة والأمثال العربية الظريفة
التي كنت أتلقفها تلقف الظامئ المحترق قطرات من الماء النمير. لكن بعيدا عن جمال
التعبير هناك خاصة عمق المعاني التي صورت لي تصويرا دقيقا أن مسألة المنافحة عن
اللغة العربية هي مسألة وجود أو فناء. وهي مسألة دفاع عن الدين الذي جاءنا بلسان
عربي مبين من الله ورسوله عليه الصلاة والسلام. وأن الاستشراق والاستعمار والتبشير
أوجه ثلاثة لعملة واحدة. ولا ينبئك مثل خبير.
فإن كنت
أيها القارئ من الصبورين فعليك برسالة محمود شاكر وهو كتاب متوسط الحجم تمنيت لو أن شبابنا تربى عليه. وإلا فابحث في موضوع
اللغة ستجد أن أسماءا تونسية كتبت فيه لمدى أهميته فإن شئت فاقرأ مقال الدكتور
منصف المرزوقي وإن أبيت (لجمودك السياسي مثلا) فعليك بمداخلات الدكتور سالم الأبيض
وهي مداخلات هامة تقوم على أساس من العقل قويم.
أخيرا
ابحثوا عن تاريخ اللغة الفرنسية كما نعرفها اليوم وعن الجهود المبذولة لتوحيد
الأقاليم حتى أجبروا الناس جبرا وأكرهوا الأطفال قسرا على التخلي عن لغاتهم الأصلية والتحدث بالفرنسية كلغة واحدة لشعب فرنسا العظيم. ثم لا يخفى عليكم
الأموال والمؤتمرات وصيحات الفزع بل القوانين والأسوار التي يحيطون بها حصن لغتهم
المنيع.
Rappelons que le «français» n'était encore parlé que par une faible partie de la population en France. ... Mais, dans le reste du pays, on continuait de parler le breton en Bretagne, le flamand et le francique dans le Nord-Est, le savoyard en Savoie, le catalan dans le Roussillon, le basque dans le Béarn, etc. Au cours de cette période, la population paysanne, qui constituait 90 % de la nation, n'avait pas besoin d'autre langue pour ...communiquer que le patois»
والله ما
جئتكم إلا لأتقاسم معكم غنيمة اليوم، قصيدة رائعة لم أكن أعلم بوجودها بقلم حافظ إبراهيم، ولكنني كعادتي استرسلت في الكلام. استمعوا لعربيتكم وهي تنعي حظها. هدانا الله وأصلح حالنا.
اللغة العربية تنعي حظها
رَجَعتُ لِنَفسي فَاتَّهَمتُ حَصاتي
وَنادَيتُ قَومي فَاحتَسَبتُ حَياتي
رَمَوني بِعُقمٍ في الشَبابِ وَلَيتَني
عَقِمتُ فَلَم أَجزَع لِقَولِ عُداتي
وَلَدتُ وَلَمّا لَم أَجِد لِعَرائِسي
رِجالاً وَأَكفاءً وَأَدْتُ بَناتي
وَسِعْتُ كِتابَ اللَهِ لَفظاً وَغايَةً
وَما ضِقْتُ عَن آيٍ بِهِ وَعِظاتِ
فَكَيفَ أَضيقُ اليَومَ عَن وَصفِ آلَةٍ
وَتَنسيقِ أَسْماءٍ لِمُختَرَعاتِ
أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ
فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي
فَيا وَيحَكُم أَبلى وَتَبلى مَحاسِني
وَمِنكُم وَإِن عَزَّ الدَواءُ أَساتي
فَلا تَكِلوني لِلزَمانِ فَإِنَّني
أَخافُ عَلَيكُم أَن تَحِينَ وَفاتي
أَرى لِرِجالِ الغَرْبِ عِزّاً وَمَنعَةً
وَكَم عَزَّ أَقوامٌ بِعِزِّ لُغاتِ
أَتَوا أَهلَهُم بِالمُعجِزاتِ تَفَنُّناً
فَيا لَيتَكُم تَأتونَ بِالكَلِماتِ
أَيُطرِبُكُم مِن جانِبِ الغَرْبِ ناعِبٌ
يُنادي بِوَأْدِي في رَبيعِ حَياتي
وَلَو تَزجُرونَ الطَيرَ يَوماً عَلِمتُمُ
بِما تَحتَهُ مِن عَثْرَةٍ وَشَتاتِ
سَقى اللَهُ في بَطنِ الجَزيرَةِ أَعظُماً
يَعِزُّ عَلَيها أَن تَلينَ قَناتي
حَفِظنَ وِدادي في البِلى وَحَفِظتُهُ
لَهُنَّ بِقَلبٍ دائِمِ الحَسَراتِ
وَفاخَرتُ أَهلَ الغَرْبِ وَالشَرْقُ مُطرِقٌ
حَياءً بِتِلكَ الأَعظُمِ النَخِراتِ
أَرى كُلَّ يَومٍ بِالجَرائِدِ مَزلَقاً
مِنَ القَبرِ يُدنيني بِغَيرِ أَناةِ
وَأَسْمَعُ لِلكُتّابِ في مِصْرَ ضَجَّةً
فَأَعلَمُ أَنَّ الصائِحينَ نُعاتي
أَيَهجُرُني قَومي عَفا اللَهُ عَنهُمُ
إِلى لُغَةٍ لَم تَتَّصِلِ بِرُواةِ
سَرَت لوثَةُ الإِفرِنجِ فيها كَما سَرى
لُعَابُ الأَفاعي في مَسيلِ فُراتِ
فَجاءَت كَثَوبٍ ضَمَّ سَبعينَ رُقعَةً
مُشَكَّلَةَ الأَلوانِ مُختَلِفاتِ
إِلى مَعشَرِ الكُتّابِ وَالجَمعُ حافِلٌ
بَسَطتُ رَجائي بَعدَ بَسطِ شَكاتي
فَإِمّا حَياةٌ تَبعَثُ المَيْتَ في البِلَى
وَتُنبِتُ في تِلكَ الرُموسِ رُفاتي
وَإِمّا مَماتٌ لا قِيامَةَ بَعدَهُ
مَماتٌ لَعَمري لَم يُقَس بِمَماتِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق