12/19/2014

مجنون الجريدة


سمعت خفق خطوات في الممر، عرفت أنه هو. أتى كالعادة في نفس الساعة في كل يوم. هو أنشط من الموظفين جميعهم وأكثر مواظبة وأشد التزاما بالالتحاق بمكان العمل. لا يهمه حر ولا قرّ. لا تقعده شمس الصيف الحارقة ولا تحبسه لسعات البرد القارسة.

تمر بنا أيام كأن جهنم تتنفس في وجوهنا، تُلهب أجسادنا وتخنق أنفاسنا. يصير الشارع صحراء قاحلة والبيت جنة وارفة لا يكاد يخرج منها إلا مضطر أو مطرود! لكن صاحبنا يأتي ويقتحم علي مكتبي وهو في حالة يرثى لها.  قميصه قد التصق بجسده الرفيع ووجهه يتفصد عرقا وهو يلهث من شدة العطش ويستجمع أنفاسه الهاربة. تكاد روحه تصعد إلى بارئها! فأتعجب من حاله وأشمئز من خباله وأهتف في سري ما أخرجك أيها المجنون في هذا اليوم القائظ، علام؟ أكل هذا من أجل تلك القمامة؟

ثم يأتي زمهرير الشتاء وتجود السماء علينا بسخاء فينهمر الماء وديانا وتصير الشوارع  جداول وأنهارا وتعوي الريح ليلا ونهارا لكن صاحبنا الوفي يأتي بمعطفه الثقيل وبحذائه الذي انتفخ من شرب الماء وبمطريته المكسورة على أربع ويضرب لنا جميعا مثلا في تذليل الصعاب من أجل عيون الأحباب!


يحضر المسكين حاملا كيسه البلاستيكي لينهل من مخازن الجرائد الثمينة. أجل يأتي كل يوم من أجل الجريدة. تلمع عيناه إذا ما رآها، تعيد إليه حماس الشباب وبريق الحب والاشتياق وكأنه يمسك بين يديه ترياق الحياة. يمسح على خدها العامر بأخبار الجرائم بيد حانية ثم يتناولها بلهفة ويقلب صفحاتها بشغف، ثم ينتبه إلى نفسه فيدسها في كيسه على عجل ويكيل عبارات الشكر والثناء ويبتهل إلى الله بجميل الدعاء لهذا الشخص الكريم، لهذا الولي الصالح ذي القبة الخضراء الذي سمح له بأخذ جريدة تافهة كان قد قرأها اليوم أو البارحة ومل منها ومن أخبارها الباهتة.

يقولون أنه كان في السابق مديرا لأحد أبرز المعاهد الثانوية وأعرقها في المدينة. وكان قبلها مدرسا. ويبدو أن سنوات التدريس ثم المديرية قد أتلفت عددا لا بأس به من خلايا دماغه. مشاكل التلاميذ ومشاغبهم، تذمر الأولياء ومصائبهم، تمرد الأساتذة ومطالبهم كفيلة بأن تغير ماهية البشر. كان صلبا ومهابا، يتصرف بأمره ونهيه. يقصده الناس من كل فج عميق، يطلبون مقابلته كأنه نبي أو صديق، لحل إشكال أو التدخل لفلان أو الشفاعة لعلان.

 لكن نواميس الكون سرت عليه كما سرت على غيره. فأغلق عينيه على السماع والأمر المطاع وفتحهما على التقاعد والفراغ فأقسم ألا يقعد! واتخذ من حب الجرائد وليجة ليصول ويجول في أرجاء الإدارة الأخطبوطية. يطوف على المديرين فيها ممن جمعته بهم صداقة قصيرة أو معرفة يسيرة فيستغلها ليأتي كل يوم حاملا كيسه البلاستيكي ويجمع فيه نصيبا من القمامة الفكرية متجسدة في تلك الجرائد اليومية والأسبوعية.

طبعا لم يكن الكل يرحب به، بل كان ضيفا ثقيلا ووجها بغيضا عند أغلب الموظفين. وهناك من يسارع بإيصاد باب مكتبه أو قفله من الداخل ما إن يسمع بوقع خطواته المعروفة في الممر. وقد كنت أنتمي لهذه الفئة، وأزفر ضيقا وألعن سرا وتكاد تصيبني عادته السيئة بالغثيان. هل هناك ذو لبّ يفعل مثل هذا؟ وكأني به يجمع ما لم يحرق من كتب بغداد أيام التتار ويتلقف الجواهر الثمينة والدرر النفيسة خوفا عليها من الضياع والحال أنه لا يُعبئ إلا قمامة ولا يغرف إلا لغو غوغاء وحثالة... إلا ما رحم ربي.

كان في كل مرة يصيح بأعلى صوته: بارك الله في ابنتي العزيزة الأصيلة الطيبة بنت الناس. وأحيانا يزيد عبارات من نوع لا أجاملك أنت فعلا أصيلة وطيبة ومثال للجدية والاستقامة والحال أني كغراب أسود منكفأة على نفسي لا أكاد أخرج من جحري إلا للضرورة، تشدني القراءة وتستهويني الكتابة وتتحرش بي الصفحة البيضاء وتستفزني لوحة المفاتيح فهل يتسنى لي الوقت لكي أهدره في ثرثرة فارغة مع الزميلات؟ وعندما يهم بالخروج يدعو لي بذاك الدعاء الشهير: ربي يقوي سعدك. أحيانا أحب أن أطمئنه أن سعدي قوي وأني متزوجة وسعيدة والحمد لله. ثم أقول ما لهذه النظرة التقليدية؟ لقد ضيقت واسعا، هل يقتصر السعد على الزواج؟ وهل كان سعدي منكوبا عندما كنت أحيا حياة الأميرات في بيت أبي؟

ثم جاء ذات صباح وأخذ جرائده الثمينة وبرقت عيناه ببريق الشوق كالعادة لكنه حين هم بالخروج استدرك راجعا وسألني: أين هي حياة؟ فلم يرق لي سؤاله وعجبت له. ماله ولحياة؟ عاملة النظافة التي صارت تأتي في الصباح الباكر تنظف المكان وتعود لبيتها قبل قدومنا. وبقي يسألني عنها دائما مما أثار شكي وحفيظتي. وبدا لي مجنون جرائد وحشريا أيضا. وصرت فعلا لا أطيقه.

وفي يوم أعاد على مسمعي نفس السؤال لكنه في هذه المرة شفعه بتفسير لم يخطر بفهمي السقيم: أين هي حياة؟ سمعت أنها وضعت طفلة وأحببت أن أهنئها. أرجوك بلغي سلامي لها وتهنئتي.

ونظرت في عينيه لأول مرة بإمعان. كان وجهه مألوفا بالنسبة لي أراه كل يوم. لكن هذه النظرة لم أعهدها من قبل. ربما لأني لم أكلف نفسي عناء النظر إليه من قبل، كنت ألمحه ولا أنظر إليه. لكنه حين قال تلك الكلمات والابتسامة الصافية على محياه وعيناه تقطران طيبة وحنانا وصدقا واهتماما، حينها فقط نظرت إليه. تعرفت عليه، رأيت روحه في عينيه. لا ليس فضوليا ولكنه إنسان. قد يكون مهووسا لكنه إنسان. قد يكون مجنونا، لكنه إنسان. وقد ألف هذا الإنسان رؤية بعض الوجوه يوميا واستأنس بها استئناسه بفنجان القهوة في الصباح، فإذا غاب أحدها سائله قلبه عنها. وهو في ذاك السن الصعب الموحش، سن الضعف والشيبة والوهن حين يصير الإنسان إلى ما دأب عليه... التعلق والتعود.


هناك 6 تعليقات:

  1. هذا أجمل نص كتبته بالعربية يعطيك الصحة ويقوي سعدك !!!

    ردحذف
  2. آميين وأنت زادة :D

    شهادة أعتز بها

    دمت شمسا مشرقة :)

    ردحذف
  3. قصة جميلة وأسلوب مشوق كما عهدناه منك.

    Félicitations pour le nouveau look du blog. La désenchantée est désormais dé-blasée, dé-contrite et décidément très enchantée! Seul problème est l'orientation de droite à gauche du champ des commentaires. Je n'ai pas de clavier arabe donc j'implore ta pitié! :D

    Léo

    ردحذف
  4. J'y peux rien ma chérie, j'ai changé la langue du blog du français à l'arabe, so deal with it ! :p

    ça dérange pas l'orientation, je te lis et tu me lis sans problème, pas vrai ?

    شكرا على وفائك وتشجيعك، أنا سعيييدة بك عزيزتي <3

    ردحذف
  5. كتاباتك بالعربيّة نضجت بطريقة ملحوظة عرّابتي
    في قراءتي للمراحل التي مررت بها مع الكتابة
    نسيت ذكر أنّك كطفلة بين عاطفيّة مفرطة و تعقّل بارد
    لكن نصّك هذا وازن بينهما
    سلاسة توارد الأفكار شدّتني
    بداية نفرت من الرّجل لمجرّد اهتمامه الهوسي
    بالجرائد، قلت عقل مدمغج آخر
    لكن مع تواصلك في الاتيان بعادته تعاطفت مع المسكين
    الفقرة الأخيرة ذكّرتني بهذه المقولة :

    You never really understand a person until you consider things from his point of view -until you climb into his skin and walk around in it.
    [Harper Lee - To Kill a Mockingbird]

    و في كلّ الحالات أحنا مطالبين بداية قبل اي موقف
    برؤية الأمور من الجانب الآخر و ايجاد الاعذار ما استطعنا، و لو انّي شخصيّا عاجزة عن هذا مع من أعرف
    بارك الله فيك عرّابتي و نفع بك

    ردحذف
  6. آمين خولة الصديقة، هذا تمرين صعب نتعرض إليه كل يوم، أن نحاول فهم الآخرين وإيجاد الأعذار لتصرفاتهم إلخخخ

    الله المستعان

    سرني مرورك، دمت متابعة :)

    ردحذف

Cher journal

Cher journal En ce temps de sécheresse artistique et d'absence de vrais tourments et de réels "problématiques" dans ...