قرأت مؤخرا كتابا رائعا لفضيلة الشيخ المجدد محمد الغزالي رحمه الله. أطلت الوقوف في المكتبة أمام الرفوف حتى استقر اختياري أخيرا على كتابه بعنوان: "علل وأدوية" لما لمسته فيه من أهمية المحتوى مع أناقة الطبعة. لكن ما إن بدأت القراءة حتى صدمت بأخطاء طباعة طالت بعض الاستشهادات القرآنية. حتى أني تركت الكتاب في اليوم الأول وأنا أشعر بامتعاض شديد، كيف يغفل الناشر عن أخطاء بهذه الفداحة ومنذ الصفحات الأولى؟
في اليوم الثاني أعدت الكرة وفي هذه المرة لم أقو على ترك الكتاب بل تعودت على بعض الأخطاء المطبعية التي كانت تعترضني بين الفينة والأخرى .. وجذبني محتواه الذي بدأ بالغوص في معاني بعض الآيات القرآنية ودلالاتها ثم بنقد جريءٍ لما يتعرض له المثقفون المتأصلون في دينهم من تهميش في حين يقدم الآخرون كأبطال الثقافة والفكر والأدب، ضاربا في ذلك مثلا لطه حسين ومصطفى العقاد فيقول في فصل بعنوان "عندما يكون الإلحاد أذكى"، متحدثا عن طه حسين :
"...بيد أنني لاحظت أن هناك إصرارا على جعل الرجل عميد الأدب العربي، و إمام الفكر الجديد، وأنه زعيم النهضة الأدبية الحديثة.
ولم أبذل جهدا مذكورا لأدرك السبب، إن السبب لا يعود إلى الوزن الفني أو التقدير الشخصي، السبب يعود إلى دعم المبادئ التي حملها الرجل، وكلف بخدمتها طوال عمره، إنه مات بيد أن ما قاله يجب أن يبقى، وأن يدرس، وأن يكون معيار التقدم.
تدبر هذه العبارة للدكتور (العميد):
( إن الدين الإسلامي يجب أن يعلم فقط كجزء من التاريخ القومي لا كدين إلهي نزل يبين الشرائع للبشر، فالقوانين الدينية لم تعد تصلح في الحضارة الحديثة كأساس للأخلاق و الأحكام، ولذلك لا يجوز أن يبقى الإسلام في صميم الحياة السياسية! أو يتخذ كمنطلق لتجديد الأمة (!) فالأمة تتجدد بمعزل عن الدين).
... ويشاء القدر أن تقع عيني على هذه العبارة وقد قررت إسرائيل وقف الطيران في شركة العال يوم السبت احتراما لتعاليم اليهودية !
إن الإسلام وحده هو الذي يجب إبعاده عن الحياة العامة، أما الأديان الأخرى فلتقم باسمها دول، ولترسم على هداها سياسات.
وظاهر أن الدكتور طه حسين كان ترجمانا أمينا لأهداف لم تعد خافية على أحد عندما طالب بإقصاء الإسلام وأخلاقه وأحكامه، وعدم قبوله أساسا تنطلق الأمة منه وتحيا وفق شرائعه وشعائره.
قائل هذا الكلام يجب أن يكون عميد الأدب العربي في حياته وبعد مماته، وأن تشتغل الصحافة والمسارح بحديث طويل عن عبقريته، وليكون علما في رأسه نار كما يقول العرب قديما.
أما العقاد وإسلامياته الكثيرة فيجب دفنه ودفنها معه، ومع أن الرجل حارب الشيوعية والنازية وسائر النظم المستبدة، وساند (الديمقراطية) مساندة مخلصة جبارة، فإن العالم (الحر) ينبغي أن يهيل على ذكراه التراب، ليكون عبرة لكل من يتحدث في الإسلام، ولو بالقلم! "
***************
وفي فصل بعنوان "أسرار وراء تخلفنا" قام الإمام محمد الغزالي بتوصيف رائع للحال التي اعترت الأمة منذ سنين ومازلنا نتخبط تحت وطأة التخريب الذي طال جميع الميادين فيقول :
" والاستبداد السياسي قديم قدم التاريخ البشري، بيد أنه اتخذ أشكالا جديدة في هذا العصر، (...) واللون الديني للاستبداد لا يغير من طبيعته، هناك فرد مصاب بجنون العظمة، وعبادة نفسه، واتته أسباب القوة بطريقة ما فانطلق يهلك الحرث والنسل، وهو قادر على تطويع الدين لهواه إذا كان ينتمي إلى دين ما، و إلا فدينه الأثير الاستعلاء والاستعباد. (...) و قد رأينا الشخص يستولي على الحكم بانقلاب عسكري مثلاً، وخلال أمد محدود يتحول حكمه العسكري إلى حكم مدني مهدت له انتخابات مزيفة.
ثم تسمع هذا الشخص يقول : إن الشعب منحني ثقته ! إن شعبي حملني مسئولية قيادته ! إن هتاف الجماهير ليزيدني حرصا على إجابة رغبتها في تولي الحكم.
ثم يمضي هذا الحاكم في طريقه يبغي تحويل كل شيء فيتدخل في الإعلام وفي القضاء وفي الجامعات والمجامع، وفي الأمن والتموين وفي ميادين التجارة والتعمير وفي كل ما أمكن من شئون الحياة الخاصة والعامة، حتى يضمن بقاء الأمور في يده، واستخفاء المعارضين من طريقه، واستقرار اليوم والغد له ولأذنابه .. !
ثم تنشأ عندئذ عواصف عاتية تقتلع الأخلاق الشريفة والتقاليد النبيلة، فيعلو السفلة والإمعات، ويتضعضع أهل الفكر وتركد ريحهم وترفض عملات ذهبية، وتروج عملات لا رصيد لها، لأن إمضاء الحاكم عليها.. !
وهذا الحاكم عالم بكل شيء، و قدير على أي شيء، وربما يكون عاجزا عن حل معادلة جبرية عادية، ثم يعرض عليه ملف (اينشتين) فينظر فيه بازدراء، ثم يقول : هذا الشخص معارض لنا، أو هذا الشخص لم يسمع منه ثناء علينا! كان يجب طرده من وظيفته، ولكن - عطفا منه عليه - ينقل إلى العمل بإدارة المخازن! ثم تنشر الصحف نبأ ترقية (اينشتين)، وعطف الرئيس عليه.. !!
والاستبداد بأساليبه الجديدة سبق الاستبداد القديم بمراحل، فعندما أراد الملك فاروق قتل حسن البنا دس عليه من اغتاله في جنح الليل بعيدا عن دائرة القانون.
أما الرئيس الحر قائد الأحرار فعندما قتل زعماء الإخوان المسلمين شكل محكمة علنية قتلت ستة منهم بجرة قلم.
وباركت الصحافة (الحرة) هذا العمل، وحيت القضاء العادل !! "
سبحان الله يال تطابق هذا الكلام مع حالنا اليوم حتى بعد الثورة ! وكأن هذا الكتاب خُط للتو ولم يُكتب منذ قرابة خمس عشرة سنة !
***************
وفي فصل بعنوان "وظيفتنا العالمية" يفضح الشيخ ما تعانيه الدعوة الإسلامية من جهل الدخلاء والدعاة المسيسين أو الذين لا فقه لهم :
"وتعجب لسلفي يتشاجر مع حنفي هل لمس المرأة ينقض الوضوء أم لا؟ وكلاهما يوجل من كلمة الشورى.
الأول لا يسأل نفسه : كيف جلد ابن حنبل؟ وكيف اختير الحاكم الذي جلده؟ وما وقع له من عقوبة على تعديه؟ وكيف توقى الأمة مستقبلا أمثال هذا الحاكم؟
إن هذه أسئلة لا يجوز إيرادها.
والآخر لا يسأل نفسه : كيف مات أبو حنيفة في سجنه؟ من الذي سجنه؟ وفي أي تهمة؟ وما مصير من عذبه؟ وكيف يحمي الخاصة والعامة من بطش أولئك الجبارين؟
هذه أسئلة لا يجوز إيرادها."
" الفقه الذكي قبل الدعوة الحماسية
إن الفتوى الجاهلة، والبدعة المحدثة، والحديث الموضوع، والخرافة المقدسة، كل ذلك لون من تزوير الوحي، وتحريف الكلم عن مواضعه، والشهادة على الله بما لم يقل.
...
ما معنى أن تعرض عقيدة التوحيد مقرونة بأن الأرض لا تدور، أو أنها محمولة على قرن ثور أو أن الحكم في الإسلام يجعل الحاكم فوق الشورى.
لحساب من يتم هذا العرض الغبي؟ ولحساب من يتم عرض قضية المرأة على أن وجهها عورة، وأن ذلك موقف الإسلام القاطع مع أن جمهرة الفقهاء على غير هذا؟ "
***************
ولشد ما بلغ بي التأثر عندما تحدث الشيخ المهموم في فصل كامل عن مجزرة بيروت فقال :
" (...) ما أرخص دماءنا نحن المسلمين، وما أشد ما نزل بنا من هوان.
(...) ومن المصادفات أن تقع مجزرة بيروت قبل عيد الأضحى بأيام معدودات فقلت: لابد أن أحدث المسلمين أن السرور حرام، وأن ملاهي العيد يجب إلغاؤها ... ثم تذكرت أن صعود المنابر محرم علي وعلى أمثالي من الموجهين الأحرار (...)
ورمقت صورة أمامي في إحدى الصحف لعظماء القوم في موقف احتجاج على ما حدث، لقد قرروا الوقوف دقيقة صمت وحداد .. نظرت إلى القامات المنتصبة في تظاهرة الرياء والخسة، ثم أعرضت عنها وأنا أشعر بالازدراء.
(...)
إن اليهودي في أمريكا يغضب لمصاب أخيه في روسيا لأن اليهودية موجودة ! والولاء السياسي لها قائم! والتنادي باسمها مسموع !
أما في بلادنا فإن رئيسا عربيا يواجه هذه الحقيقة بقوله : لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، إنه يقول ذلك للمسلمين وهو يرى أن السياسة أقامت لليهود دولة على أنقاضنا، وجعلت الانتماء لها يتجاوز الحدود الإقليمية، والأوضاع الدولية.
فإذا حاول داعية استثارة الشعور الإسلامي ضد مذبحة يهودية وقعت بالمسلمين، استنكر كلامه واقتيد إلى السجن أو المعتقل.
(...) وسمعت أن رفات الموتى لا يزال متناثرا في أنحاء المخيمات، وأن عفونة الجثث بدأت تغير رائحة الجو، وأن رجال (الصليب الأحمر) شرعوا يحفرون مقابر جماعية ليخفوا آثار المأساة أو ليمنعوا انتشار الأوبئة.
وحولت مؤشر الراديو لأسمع كلاما آخر فإن روحي يكاد يزهق من الحزن !
وصدمت أذني إذاعة القاهرة وهي تقدم للمستمعين في فترة الظهيرة من ٢١ سبتمبر سنة ١٩٨٢ _ أو أيلول الأسود كما يسميه البعض _ أغنية عبد الوهاب (ليلنا خمر) !! "
بكيت لمأساة الإسلام والمسلمين، وتأثرت أيم تأثر بغربة الداعية الذي ذهبت نفسه حسرات على ضياع الأمة وهوان الشعب وتجبر الحكام وهو ما عشناه ومازلنا نعيشه، كم شعرنا ولا نزال نشعر بالعجز أمام مأساة إخوتنا في فلسطين؟ والآن أمام مأساة إخواننا في سوريا ! تأثرت بكلمات الشيخ وهو يسرد حسرته في ذاك اليوم، وقد ولدت في اليوم الموالي ... ثم بعد ثماني عشرة سنة في نفس اليوم من سنة ٢٠٠٠ تندلع الانتفاضة الفلسطينية الثانية .. واليوم تواصل دولة الإرهاب مشروعها الاستعماري والأمة لا تزال في هوانها، مازالت تتحسس طريقها إلى الحرية وتنفض عنها بقايا دكتاتورية خربت الحرث والنسل ولن تكفي عشرات السنين لإصلاح ما أفسدت من قلوب وعقول وتأثيث ما خلفت من إفلاس فكري وثقافي و غياب تام للوعي الديني والدنيوي ... وحتى ذلك الحين ستبقى دماء المسلمين رخيصة وسنسمع كل يوم أنباء الاعتداءات والمجازر وبناء المستوطنات واغتصاب الأراضي ونحن لا نملك تغيير ذلك .. بل أكثرنا لم تعد تهمه أو تهزه مثل هذه الأخبار ..
***************
كانت هذه بعض المقتطفات التي أعجبتني في الكتاب إلا أني لم أذكر إلا نزرا قليلا من محتواه وقد تعرض الشيخ الفاضل إلى أمور شتى من ذلك الدفاع والتعريف بما قدمه جمال الدين الأفغاني في خدمة الرسالة وكذلك تلميذه محمد عبده كما تطرق الشيخ إلى جهلنا بتاريخ إخواننا المسلمين في آسيا الشرقية وما تعرضوا إليه من حملات صليبية إذ قامت على أنقاضهم دولة الفيليبين ثم أنهى الكتاب بالذود عن كبار الصحابة لا سيما عثمان رضي الله عنه متصديا لجملة من الأكاذيب والادعاءات الباطلة التي سودها أحد اليساريين الإسلاميين في سلسلة من المقالات التي تتخفى وراء حب الإمام علي رضي الله عنه لتطعن في كبار الصحابة و أمهات المؤمنين. وقد ذكرني هذا الفصل الأخير بكتاب "أهل التخليط" من حيث أن أهل التخليط ما فتئوا يتكاثرون ويتناسلون على مر الأزمنة والعصور، اللهم قنا شرهم !
***************
أرجو أن أكون قد بلغت شيئا قليلا مما أراد أديب الدعاة (كما لقبه صديقه حسن البنا) أن يصدع به من الحق، ولكن هدفي الأساسي أن أدعوكم لقراءة هذا الكتاب الغني الرائع وعدم الاكتفاء بما نقلته هنا، هذا الكتاب الذي يترجم عن عمق الفكر وبعد النظر وحس المسؤولية وإنسانية الداعية الذي حمل هم الأمة والدعوة في قلبه وسلك الطريق الوعر ولم يبال بقلة السالكين ولا بوحدته بين المسلمين .. شيخنا العظيم أدعو لك في صلاتي وأرجو من الله أن يتقبل دعواتي، وإلى لقاء قريب، بين صفحات تركتها تخاطب العقل، تهز القلب وتذيب...
**************
"إن التدين ليس شقشقة لسان، أو عادات أعضاء تلتوي وتنفرد، إنه قبل كل شيء قلب سليم وفكر مستقيم، ينشأ عنهما مجتمع كريم."
???
ردحذفOh ma chérie, tu vas croire que j'ai supprimé ton commentaire ! :(( au fait j'ai eu un problème technique hier, je sais pas si t'as remarqué les couleurs bizarres (et très moches) qui ont envahi les lieux :D finalement j'ai compris que l'origine du mal n'est autre que le dernier article, je l'ai donc supprimé (gardé en brouillon), et recommencé de nouveau, avec le regret de voir "disparaitre" ton com' que voici :
ردحذفalors on recommence :
TM a dit : Salam ma Prima, Je n'ai pas tout, tout compris de ton article (mais tu vois, je fais un effort ;) )... Mais quel étonnement quand j'ai compris que tu parlais du Cheikh Muhammad Al Ghazali!! je suis en pleine lecture d'un de ses livres... traduite et retranscrite en français, avec des erreurs de typographie... Mais bon, c'est ainsi!!
Prima répond : wa alayki al salem chère soeur, je suis ravie que tu fasses cet effort, ça fait plaisir ! et quelle coincidence, bon j'espère que tu ne t'es pas trompée sur le Ghazéli, car il y en a deux, ici je parle de Mohamed, que son père a baptisé Al Ghazéli (ce n'est pas son vrai nom de famille) par admiration à feu Abou Hamed Al Ghazéli, le persan qui est mort il y a 900 ans, l'un des meilleurs esprits à l'échelle humaine et non pas juste musulmane :)
Donc voilà, bonne lecture ma belle et excuse moi pour le malentendu, j'aurais du t'avertir sur le coup, mais comme j'ai fait ce "ménage" tard hier soir, et qu'aujour'dhui is big family day, alors me voilà, en retard pour t'expliquer, tu l'excuseras :*
Lot of kisses my dear. Je n'ai pas mal pris, je me posais juste la question...
ردحذفJe crois qu'on parle bien du même Al Ghazali... Je lis "Fiqh as-Sîra" en ce moment...
Exellent résumé Bourikka Fikom
ردحذفJe compte lire le livre nchALLAH :)
Je suggère aussi d'autre titres pour le même écrivain avec une analyse pertinente , une vue structurée et profonde par rapport à notre problématique ..
الغزو الثقافى يمتد فى فراغنا
سر تاخر العرب و المسلمي
@ TM : oui il me semble bien :)
ردحذف@ Houcemeddine : chkoun "kom" ? il n'y a que moi ici xD
Tu ne regretteras pas la lecture inchAllah, sinon je t'invite à lire son livre : قذائف الحق, je ne l'ai pas encore lu, mais il parait que c'est l'une de ses oeuvres majeures, le titre est déjà assez suggestif, ce livre a été longtemps banni en Egypte et peut être même ailleurs.
Sinon je prends note des titres proposés et je te remercie, ou mieux encore beraka Allahou fik ^^
السلام عليكم
ردحذفتوحشت تعليقاتي في تدويناتك :)))
حبيت نمر و نستكثر خيرك (لول) خاتر تالمون حكيت عالامام الغزالي خليتني نبدا نطالع مؤلفاتو .. وما ندمتش بلعكس فهمت كذا أمر كان مستعصي الفهم عليا
فبارك الله فيك أختي و ربي يجازيك خير :*
Khaoulaaaa
ردحذفوعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
هالخطى السعيد
اييه حتى أنا توحشت تعليقاتك وكتاباتي وكالزمن الجميل :)
يسعدني أني نكون واسطة خير :D
الإمام الغزالي من كتابي المفضلين قد ما نقرالو قد ما يزيد يعجبني ونبدا نترحم عليه
بارك الله فيك وجزاك الله خير الجزاء