10/30/2017

ألا انهض وسر في سبيل الحياة




لكل منا بسمة وبصمة ومشية. أجل مشية خاصة وطابع خاص يوحي بدواخل النفوس ويشي بخفايا الطباع. فمنهم الطويل الذي يمشي مشية الفرِح بطوله، المعتد بعرضه، المعجب بما حباه الله من تضاريس شاهقة، ذاك الذي لا يحسن الكلام إلا بصوت عال وقد تعتريه بسمة فخر في غير مكان. ومنهم الذي لا يتكلم إلا برفق ولا يأكل إلا قليلا وهو منزو في مكتبه لا يكاد يفارقه إلا لشراء الخبز الأسمر الصحي. ستجده يمشي مشية رصينة ويثبت قدميه جيدا في الأرض مع كل خطوة. فكأن حذاءه ينقب الأرض نقبا لكن بتؤدة وحكمة. وستجد تلك التي ما غادرتها الطفولة حتى وهي أم لثلاثة ستراها تتهادى بطريقة مضحكة تشبه مشية الدب الأبيض في أفلام والت ديزناي. أما النشيطة المجاهدة التي حنكتها الحياة، تلك التي تعشق الحركة وتمقت الشكوى رغم المرض والمشاكل ستراها تمشي مشية حازمة لكن جسمها أو بالأحرى كتفاها يميلان تارة يمينا وأخرى شمالا مع كل خطوة تخطوها

كذلك كانت أمي وهي تغذ السير إلى المعهد لإلقاء الدرس وكذلك أبي حين يمشي في الرمل ذات يوم صيف. أذكر جيدا أنه يغرس قدميه غرسا في الرمل ثم يقتلعهما بسرعة وهي طريقة ناجعة تسهل الخطو على شاطئ البحر. أما أنا فهل لي مشية خاصة؟ طبعا لكنها مشية عادية ليس فيها ما يجلب الانتباه وهي مشية سريعة. منذ سنوات الجامعة الغابرة وأنا لا أحب بل لا أطيق المشي بتؤدة. دائما لبنى السريعة، دائما "اجر يا فورست"، دائما أحسب الساعات والدقائق وأكره أن يأتي أمامي من يمشي مشية السلحفاة ويضيع لي وقتي. وهو الجنون نفسه حين أكون وراء مقود السيارة، من الأفضل لك ألا تعترض طريقي.

نعم أمقت المشي ببطئ إلا أن أكون مرهقة. هكذا كنت ثم تعلمت يوما أن البطء أيضا جيد، وأن مرض العصر هو السرعة والضغط المستمر. نسرع في أكلنا وشربنا، نسرع في مشيتنا، نسرع في الحكم على الناس. نحن دائما على عجلة فإما ذاهب إلى معهده وإما مسرع إلى مصنعه وإما مهرولة إلى مدرسة ابنها وكلنا يهرول وكلنا يجري ويلهث وراء حافلة صفراء ذات أبواب مشرعة مكتظة ب "البؤساء"، وراء حلم لا يُوَرث إلا الشقاء، وراء حب ليس منه شفاء، وراء أمل في أن نصير من الأغنياء. كلنا يجري ويلهث حتى صرنا نمر بجانب الورود فلا نراها، ونعبر حذو السهول الخضراء فلا نبصر بريقها ومرعاها ونمشي بجانب البحيرة وقت الغروب فلا نرى لوحة السماء وحمرة محياها. بل إننا نمشي في الغاب فلا نسمع زقزقة العصافير وإن غناءها ليملأ الأرجاء والشمس تسترق النظر من وراء الأغصان فهلا حييناها؟ بل إننا نجلس حذو أبنائنا فلا نراهم وبهاؤهم ملء السمع والأبصار وهم معجزة الخلق وهم بهجة الحياة وهم زينتها تمشي على الأرض.



مشغولون نحن بالركض خلف شهادة لا تعني شيئا، مهوسون نحن بإثبات وجودنا في عمل لا يصنع لنا مجدا، مصرون على تأمين قوتنا، نعيش ولا نحيا. خلقنا للسير في الشواطئ  والغدران، خلقنا لتسلق الجبال والجري في الوديان، خلقنا للسباحة والرماية وركوب الخيل فما سبحنا إلا في مواقع الأنترنات وما رمينا إذ رمينا إلا بأوقاتنا الثمينة للمسلسلات والأفلام وما ركبنا إلا الحافلة التي تقلنا إلى مدينة التسوق وجبال الفساتين والأحذية والقمصان. خلقنا للطبيعة ولاكتشاف معجزات الخلق ولمصافحة ورق الشجر وللتعرض إلى قطرات المطر فابتلعتنا مقاعد الدراسة إلا قليلا ثم تجشأتنا بشهائد تدخلنا إلى مكاتب كئيبة نبذل فيها سحابة النهار وأطرافا من الليل ثم نعود لديارنا منهكين ذاهلين عن أولادنا وأزواجنا وأمهاتنا وآبائنا، نفتح التلفاز لأننا لا نحسن القراءة ونتشرب سموم الإعلام لأننا متعبون لا نحاول التفكير خارج الصندوق. 

ثم نعيد الكرة مرة ومرة، ونمضي في غفلتنا ولا نصحو إلا وقد كبر أولادنا وشابت رؤوسنا ومضى أكثر أحبابنا والموت مترصدنا في كل زاوية، لا نفيق إلا ونحن على فراش المرض ومنا من لا يفيق إلا وهو في ظلمة القبر تحت الأرض فالله الله يا ابن آدم، "خلقت طليقا كطيف النسيم وحرا كنور الضحى في سماه، تغرد كالطير أين اندفعت وتشدو بما شاء وحي الإلاه"

كل شيء حولنا استثنائي لكن نفوسنا البليدة ما عادت ترى الاستثناء والروعة في أي شيء. أفيقوا يرحمنا ويرحمكم الله!



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Cher journal

Cher journal En ce temps de sécheresse artistique et d'absence de vrais tourments et de réels "problématiques" dans ...