10/20/2017

السعادة ما السعادة



موضوع الأسبوع في إحدى المجموعات الراقية التي شرفني الانضمام إليها هو السعادة. ما هي الأشياء التي تسعدك؟ ما هي السعادة بالنسبة إليك. أحببت كثيرا هذا الموضوع. يبدو السؤال بسيطا لكن إجابته شغلت عقول الفلاسفة. ما هي السعادة؟ أهي الرضا والقناعة؟ أهي الصبر والطمأنينة؟ أهي راحة البال والضمير؟ أهي التفاؤل والأمل؟ أهي موجات الفرح العارم حين تجتاحنا؟ أم خفقات قلوبنا ذات حب؟ أهي الانسجام مع الكون والطبيعة؟ أهي التفكر في خلق الله؟ أم  كل هذا معا؟

رأيتني وأخواتي نخلط بين مفهوم السعادة ووسائلها. بل بين السعادة والفرح العابر. بين ما يسعدنا وما يعيننا على السعادة. ورأيتني أشارك المشاركة الأولى فالثانية فالثالثة. في كل مرة أتذكر شيئا. فأحببت أن ألملم ههنا أفكاري وأن أجمع شتات سوانحي وأواجه ذاك السؤال الخالد بروية وتفكر.

هناك أمور نتفق عليها جميعا ثم نفترق في التفاصيل كأن يحب أحدهم الشاي ويحبذ آخر القهوة. لكن الشعور بالسعادة والارتياح هو هو. البخار المتصاعد والكوب المحبب والمذاق الرائع هو هو. حسن دعوني أخبركم بل أخبرني ما هي السعادة بالنسبة لي. هي والله الرضى. وما رأيت شقائي وبلائي وكثير دموعي إلا من قلة صبري وكثرة سخطي. فإذا مرض ولدي سخطت لأنه صار يزور الطبيب كل أسبوع وفاتني أن هناك من يزور القبور ومن يساهر الدجى في ممرات المستشفيات الضيقة الحالكة ومن يصل  الليل بالنهار يبحث عن دواء أو يطرق بابا للشفاء.

رأيت أن السعادة في التفاصيل الصغيرة، في شمس الخريف الدافئة حين تقتحم عليك فراشك ما إن تبعد الستائر، في نسمات الصباح الندية، في ابتسامة ولدي وكلماته الأولى، في أول قبلة حقيقية وأول عناق وأول نظرة فهم ووعي في عينيه. في طريقته باللعب بالكرة بكل جد ورقصة انتصاره الخاصة كلما قذف بها وهو بعدُ في حوله الثاني. سعادتي في حضن زوجي الدافئ، في حنانه وتسامحه وصبره على تقلب مزاجي وسوداويتي المفرطة. سعادتي في يده الحانية حين تمسح العرق عن جبيني إذا أصابتني الحمى. سعادتي في أن يقبل رأسي بعد كل صلاة تجمعنا. سعادتي في  أن أصنع طعاما صحيا وشهيا وأحوز على أعظم شهادة في الطبخ الأولى من زوجي والثانية من ابني حين تمتد يداه الصغيرتان نحو الفرن لأنه أدرك أن هناك شيئا لذيذا في طريقه إلى ثغره الباسم.


 السعادة هي وجه أمي حين يشرق بتباشير الصحة والعافية وراحة البال. هي سهرة السبت مع العائلة حيث نتذكر طرائف الصغر وطيش الشباب. السعادة هي حضن أختي الكبرى حنان وبهجة أختي الصغرى  أمان وحديثي الذي لا ينتهي مع توأم روحي أمينة، السعادة هي الرضى والإيمان. السعادة في تقوى الله، في قراءة كتاب الكون الملهم، في رؤية الله في خلقه، السعادة هي حين أخشع في الصلاة، حين أتدبر آية كأني أقرأها للمرة الأولى، هي أن أطيل السجود وأطلق الدموع وأنهض وقد تخففت من همومي وخطاياي. السعادة هي إخراج الزكاة وصلة الرحم وعناق الجارة الوفية التي أحبتنا منذ الصغر. السعادة هي قرار القرب من الله وهي لبس الحجاب رغم نقيق الضفادع وعواء الذئاب في زمن كثر فيه قمع السلطة والإرهاب.

السعادة هي حين لا أخشى في الله لومة لائم، في قول الحق وفعل الحق، في أن لا أفكر في الصعود إلى المترو دون أن أدفع الحساب، لأني مؤمنة والمؤمن ليس بغشاش ولا كذاب. السعادة هي البيت النظيف والفراش الوثير وأوراق شجرة الرمان حين تطل من الشباك. السعادة هي حين أقذف نفسي في البحر حين تصبح الزرقة أرضي وسمائي، حين تغوص قدماي في رمل لم تطأه الأقدام، حين أرى ابني يلعب على الشاطئ حرا طليقا يستقبل الموج بالأحضان . السعادة هي تلك النزهة الخفيفة في الغاب على الأقدام حين تسارقنا الشمس النظر من وراء أغصان الشجر وحفيف الأوراق وصمت الضوضاء وبعد المدن. 


السعادة هي السياحة في أغوار الوطن حيث أخلاق الصحراء وعلو الهمم، وهي السفر على جناحين من حديد حين تسمع مناديا ينادي مرحبا بكم في المدينة المنورة. السعادة في رؤية الكعبة والسعي بين الصفا والمروة. السعادة هي الاكتشاف وهي العمل وهي الإنجاز. السعادة هي تلك الانتصارات الصغيرة على نفسك الجبانة والكسولة، هي قهرك لطبعك السيئ، لغضبك، لتسويفك، لعنجهيتك. السعادة هي ساعة أمضيها مع كتاب ينفع وكاتب يبدع ورسالة تدفع. السعادة هي الوحدة المحببة في سكون الليل أو في فجر الصباح. السعادة هي رائحة كتاب أشتريه فأدمنه ولا أكاد أتركه قبل أن ينتهي فأرتاح. السعادة هي تلك الاكتشافات الأدبية التي 
تبهرنا: الأنصاري، الرافعي، محمود شاكر وقصائد نزار الثائرة، تلك التي أخفوها عنا، وكلمة جديدة بالأنقليزية أتعلمها.


السعادة أن تكون ممن تعلم القرآن وعلمه، السعادة حين تسمع صوتك يجلجل بآيات القرآن مجودة لأول مرة، السعادة هي خشوعك في الصلاة حين ينمو لأنك تقرأ بحفظك الجديد، السعادة في العلم والتعلم، والحلم والتحلم، السعادة حين تسامح من ظلمك وتغفر لأخيك وتجد سبعين عذرا لمن آذاك، السعادة حين تساعد الآخرين، حين تدخل سرورا على قلب مؤمن، حين تشتري هدية لشخص تحبه، حين ترى منظرا خلابا يجدد الإيمان. السعادة هي بداية الالتزام... 

السعادة هي كل ما اكتشفته وما زلت ستكتشفه، وهي أن يكون الله ربك وتعلم أن "ولسوف يعطيك ربك فترضى"، وأن مع العسر الواحد يسرين فلله الحمد والمنة. السعادة في الصحة والعافية وفي سلة الغلال حين تكون معبأة. السعادة في نعم الله الملونة ذات المذاقات المختلفة. السعادة في أن تستشعر أن موعدنا الجنة رغم ذنوبنا وقصورنا لكن ليس لنا وطن سواها ما دمنا نشهد أن لا إلاه إلا الله. 

السعادة هي كل شيء جميل وهي كل بارقة أمل وهي كل الإنجازات التي نفخر بها وهي تجدد الصباح لتتجدد معه فرص حياتنا، وهي كل النعم التي أغدقها الله علينا ولو ذهبنا نعدها لعجزنا عنها تعدادا وحصرا فضلا عن أن نقوم بشكرها فاللهم غفرا.


السعادة في الصحبة الصالحة والقبول عند الناس، وفي امرئ يهدي إلي عيوبي وفي أخت تدعو لي بظهر الغيب وفي سجدة في جوف الليل بعد طول حرمان، السعادة في الرضى وتقوى الله وقوة الإيمان. السعادة فلسفة حياة تتلخص في هذه الكلمات الخالدات:

عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ؛ إن أصابته سرّاء شكر ؛ فكان خيراً له ، وإن أصابته ضرّاء صبر ؛ فكان خيراً له . رواه مسلم 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Cher journal

Cher journal En ce temps de sécheresse artistique et d'absence de vrais tourments et de réels "problématiques" dans ...