عادت
الحاجّة مليكة مرهقة من عمرتها. هي مرهقة لكنها سعيدة حتى وإن مرضت بعدها، لا يهم،
كله في سبيل الله. هي أرملة منذ أربعين عاما، خلف لها زوجها أربع بنات وولدا
واحدا. كلهم متزوجون وقد أقر الله عينها برؤية أحفادها وأبناء أحفادها. الحاجّة
مليكة امرأة تبدو للوهلة الأولى ضعيفة ومسكينة و"عاقلة". هي كلمة لا تمت
للعقل بصلة ولكننا تعودنا استعمالها بلهجتنا العامية لنصف شخصا هادئا، لينا، لا
يثير المشاكل ولا يرفع صوته وفي بعض الأحيان قد تعني هذه الكلمة أن هذا الشخص ساذج
ومن السهل أن يكون عرضة للاستغلال من الآخرين. أما الحاجة مليكة فهي لم تكن كذلك.
نعم هي هادئة ورصينة ولا ترفع صوتها ودموعها دائما متجمعة في مآقيها جاهزة للبكاء
كلما استدعت الحاجة، ولكنها عاقلة بمعنى رجاحة العقل. لقد بكت في أرض الحجاز لأنها
لا تحسن القراءة ولا الكتابة. بكت لحرمانها من خير عظيم ومن أفضل الذكر: تلاوة
القرآن الكريم. وكثيرا ما ذهبت نفسها حسرات على حرمانها من التعليم مع أن أخواتها
الصغريات تعلمن لكن الأكبر سنا دائما يدفع الضريبة الأغلى، هكذا هي الحياة. حتى
أبناؤها لم يفلحوا في الدراسة ولا غرو فأنى لهم ذلك والأم أمية والأب مات شابا وشقتهم
لا تكاد تفرغ من الأقارب والجيران... طبعا هناك من ينجح في مثل هذه الظروف لكني
أحببت أن أجد لهم الأعذار.
لقد
أكرم الله الحاجّة مليكة بالحج منذ سنوات. ذهبت برفقة أختها وزوجها ومذ ذاك الحين
ونفسها تواقة إلى الرجوع للبيت العتيق، متشوفة لزيارة الرسول الكريم عليه صلوات
الله وسلامه. فجمعت المال وطفقت تتحين الفرص، تبحث عن مرافق لها، عن صحبة صالحة
تعينها وتأخذ بيدها. هي في صحة جيدة لكنها في النهاية امرأة ولا بد لها من رفيق.
وكان ذاك الرفيق أخ زوجها وعائلته. كان السفر يؤجل كل عام بسبب عدم انتظام دورة
العمرة. سِلفها لا يحب الذهاب في فصل الصيف فهو مريض بالسكري ولا يطيق قيظ أرض
الحجاز في هذه الفترة من السنة. تأجل السفر كثيرا ورغم طول انتظارها إلا أن هذا
التأجيل المتكرر سمح لها بكنز المزيد والمزيد من المال. ستستعمله لشراء الكثير من
الهدايا لبناتها وأحفادها وكنتها وابنها وإخوتها وأبناء إخوتها وأحفاد إخوتها. أجل
ستجد لكل صغير وكبير هدية تلائمه. ثم هناك من زودها بالمال وطلب منها شيئا معينا
وهي على أي حال لا تحسن القراءة. فماذا ستصنع بين الصلاة والصلاة؟ المراكز
التجارية على مرمى قدم من المسجد النبوي وكذلك المباني الشاهقة في الحرم المكي،
والمحلات براقة والبضائع متنوعة ومغرية والجيوب مدججة بالسلاح وهي فرصة ما كل يوم
تتاح، فحي على الجهاد ... جهاد التسوق. "ضيوف الرحمان" يستعدون للسطو على كل
جلباب وفستان.
لقد
كلفها هذا الجهاد وقوعا موجعا في السلم المتحرك، تبا لم أفهم بعد كيف يسير هذا
الشيء ! لكن لا يهم لا بد من التضحيات في
سبيل أنبل الغايات وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا! كله في سبيل
الله، كله في سبيل العائلة الموسعة، فهذه الجلابيب المزركشة للنساء وهذه الفساتين
البيضاء المزينة بالفراشات للبنات وهذه القمصان الأنيقة للرجال وهذه المرايا
الصغيرة حيث يمكنك أن تنقش اسم البنت وتجعلها هدية شخصية وهذه الأساور والحلي تغريني
بأن أشتريها، يا للجمال، انظر إلى روعة الزخارف وهذي لعب الأطفال. وجدت معها
شابتين ترافقانها وتجربان عليهما الجلابيب وتفكران معها فيم إن كان هذا الجلباب
سيعجب ابنتها فلانة وإن كان هذا الفستان من مقاس أختها علانة. هاتان الشابتان
كانتا تحلمان بعمرة يستطيعان فيها الجري والتحليق في فضاء المسجد الرحب فوجدتا
نفسيهما مجبرتين على اتباع خطوات الحاجّة مليكة وما أكثر خطوها إلى المحلات
التجارية، ثم إنهما اكتشفتا أنها ليست "عاقلة" أي ساذجة كما يشاع بل هي
فطنة للغاية ومتيقظة ومساومة شرسة ومن الصعب إرضاؤها ومن العسير إغراؤها فلا تشتري
شيئا إلا بعد طول تمحيص ومناورة وكثير بحث ومشاورة. حتى أن صائغا كاد يتميز من
الغيظ من شدة إلحاحها رغم صوتها الخافت وعينيها الزرقاوين الجاهزتين دائما لسكب ما
تيسر من العبرات، حيث ظلت تُلح وتلُج حتى انقطع حبل الصبر بالرجل !
هذه
هي الحاجّة مليكة... لقد أغرقت الشابتين بشتى أنواع الدعاء واعترفت لهما بجميل
صبرهما ووقفتهما الحاسمة معها ومؤازرتهما لها في قضيتها العادلة : تبديد ما يربو عن المليونين في بلاد الحرمين والعودة بما لا طاقة لإنس ولا جان على حمله من بضائع
وسلع : ملابس وزرابي ومسبحات وتمور وبخور وحلي وعطور. لكن أحبابها كثر ومهما جلبت
معها من هدايا فلن توفيهم حقهم. لقد استنفدت كل ما عندها من ذخيرة ومازال سيل الزوار والمهنئين في تدفق
فما العمل؟ حمدا لله فال"الشوالق" بكثرة في بلادنا. ستشتري بعض أغطية
الرأس المزركشة من السوق المحلية الشعبية التي تستجلب "أجود" المنتوجات
الصينية وآخر الصيحات في الموضة التركية و"تنور" بها وجهها أمام الناس.
وهكذا حصلتُ على غطاء رأس أكاد أجزم بأني رأيت مثله في السوق وبأني لم أر شبيهه
يباع في أرض الحجاز عندما ذهبتُ لأهنئ الحاجة مليكة بعمرتها وأطمئن على صحتها.
والآن
لا أدري أيهما أفضل عند الله؟ أن تحبس نفسك لعبادته في العمرة فلا تتجول في
المحلات التجارية وتصرف سائر وقتك في الذكر والعبادة وترابط في المسجد منتظرا الصلاة
بعد الصلاة وتشغل النفس بتلاوة القرآن والطواف بين قبور الصحابة والمزارات أو أن تخرج مدججا بالعملات الصعبة وتصرف جل وقتك في شراء الهدايا
للأقارب والأصدقاء لتدخل السرور على قلوبهم؟ أُرجح الحل الوسط فهناك جلابيب جميلة وسلع نفيسة لا
نجدها إلا هناك ولا بأس في أن يتمتع الإنسان بما أنعم الله عليه من زينة الحياة
الدنيا ويشتري لباسا حسنا لكن أن يتحول التسوق إلى الشغل الشاغل والمطلب الرئيس
وأن يشتت القلب ويحول الفكر عن القبلة التي هو موليها ويصرف النفس عن التفرغ التام
لربها فهو لعمري شيء مؤسف وسلوك لا تكاد تراه إلا عند شعبنا المغاربي الشقيق.
أنا نفسي تألمت من هذه التجربة، فما أن تنقضي الصلاة حتى نسير زرافات وغزلانا في اتجاه المركز التجاري "طيبة" بالمدينة وتأخذ بألبابنا أنواع المنتوجات الهندية والخليجية وتجذب أعيننا حتى المسبحات البراقة والحلي وغيرها وكنت أنا أيضا في مهمة عسيرة: كان علي أن أتسوق مع أبي لشراء الهدايا للعائلة الموسعة، لم تكن هدايا رمزية من الوزن الخفيف بل كانت هدايا ثقيلة على الكاهل، ثقيلة على الجيب واستفزني سؤال: لم لا نشتري الهدايا للعائلة الموسعة عندما نكون في بلدنا، لم يصبح شراء الملابس والهدايا فجأة ضرورة لا يجوز إرجاؤها ما إن نخطو خارجه؟ لمَ نشعر بأننا مجبرون على شراء حتى ملابس الأطفال من هنا؟ ألا يُعدّ هذا على حساب عباداتنا وتركيزنا في هذا السفر الذي من شأنه أن يقوي إيماننا وينعش أرواحنا ويسمو بنفوسنا؟ لكنه عصر الشراء والاستهلاك وكل شيء مصمم ومدروس لذلك ... نحن مستهلكون وهذه وظيفتنا وهكذا سنبقى أينما ذهبنا إلا أن يتغمدنا الله برحمة منه فنثور ثورتنا ونكسر الأصنام ونذهب إلى ربنا مجردين من النقود الزائدة على حاجتنا لكنه امتحان صعب "وقليل ماهم"...
أنا نفسي تألمت من هذه التجربة، فما أن تنقضي الصلاة حتى نسير زرافات وغزلانا في اتجاه المركز التجاري "طيبة" بالمدينة وتأخذ بألبابنا أنواع المنتوجات الهندية والخليجية وتجذب أعيننا حتى المسبحات البراقة والحلي وغيرها وكنت أنا أيضا في مهمة عسيرة: كان علي أن أتسوق مع أبي لشراء الهدايا للعائلة الموسعة، لم تكن هدايا رمزية من الوزن الخفيف بل كانت هدايا ثقيلة على الكاهل، ثقيلة على الجيب واستفزني سؤال: لم لا نشتري الهدايا للعائلة الموسعة عندما نكون في بلدنا، لم يصبح شراء الملابس والهدايا فجأة ضرورة لا يجوز إرجاؤها ما إن نخطو خارجه؟ لمَ نشعر بأننا مجبرون على شراء حتى ملابس الأطفال من هنا؟ ألا يُعدّ هذا على حساب عباداتنا وتركيزنا في هذا السفر الذي من شأنه أن يقوي إيماننا وينعش أرواحنا ويسمو بنفوسنا؟ لكنه عصر الشراء والاستهلاك وكل شيء مصمم ومدروس لذلك ... نحن مستهلكون وهذه وظيفتنا وهكذا سنبقى أينما ذهبنا إلا أن يتغمدنا الله برحمة منه فنثور ثورتنا ونكسر الأصنام ونذهب إلى ربنا مجردين من النقود الزائدة على حاجتنا لكنه امتحان صعب "وقليل ماهم"...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق