4/13/2018

أيام من حياتي



أنهيت للتو كتاب " أيام من حياتي" لزينب الغزالي. التهمته في يوم واحد تقريبا. عصفت بي تجربة زينب في سجون جمال عبد الناصر أيما عصف. لو عاشت هذه المرأة العظيمة زمن النبي لكانت اسمها سمية، ولو عاش فرعون مصر وقتها لكان اسمه أبا جهل "فرعون هذه الأمة". إلا أن حربته الهوجاء اصطدمت بإرادة زينب الصلدة الصماء.

لقد قرأت من قبل رواية أيمن العتوم الرائعة في فظاعتها "يسمعون حسيسها" وتابعت جلسات الاستماع العلنية لهيأة الحقيقة والكرامة بتونس فظننت أنني مهيأة لألوان العذاب التي سأقرأ عنها في قصة زينب وشهادتها الحية للتاريخ كما عاشته وعانته. إلا أن جحيم السجن الناصري كان يخفي في جعبته مقالب أخرى لا يجرأ الشيطان على التفكير فيها. ثم إننا هنا لسنا بصدد شابة في مقتبل العمر (مع ما في ذلك من بشاعة أيضا) بل نحن نتحدث عن سيدة وقور في الستين من عمرها، داعية إلى الله على بصيرة. عجبت لشجاعتها وقوة عزيمتها وصدق إيمانها. فمذ دخلت إلى السجن أطلقوا عليها الكلاب الجائعة وتركوها لتنهش لحمها في غرفة مغلقة! لكنها في أحلك الظروف ما تفتأ تذكر الله وتسأله العون والثبات وقد حدثت معها عدة كرامات بل رأت الرسول عليه الصلاة والسلام أربع مرات. هذه سيدة أوصى عبد الناصر شخصيا بأن يعذبوها أكثر من الرجال. سبحان الله كان يكرهها كرها مرضيا.

تفهم من هذه الشهادة الحية كم أن الطغاة أقزام فرغم تجبرهم وجبروتهم وسلطانهم ومظاهر القوة والأبهة الفارغة إلا أنهم يعيشون في خوف دائم بل في هلوسات لا أساس لها من الصحة وعساه من عذابهم المعجل في الدنيا قبل الآخرة. من أجل ذلك تراهم يبطشون بمن يخالفهم ويتخيلون ألف محاولة لاغتيالهم أو الانقلاب عليهم فلا يبالون بسجن الألوف وقتل العشرات بل وإبادة قرى بأكملها من أجل أن لا تميد الأرض تحت أقدامهم.

فمثلا كانوا يطلبون من زينب أن تعترف بأنها كانت وسيد قطب وغيره يخططون لقتل جمال عبد الناصر. وعبثا كانت تجيبهم بأن قضيتها أكبر من الأشخاص وأنها إنما تسعى لتربية وتهيئة جيل من الشباب المسلم لإقامة شريعة الله يوما ما قد يطول الزمن قبل الوصول إليه إلا أن زبانية الطاغية وجنود فرعون أبوا أن يصدقوا هذا الكلام.

طبعا كان منهم الكفرة الفجرة يقولون لها أين ربك لم لا ينقذك؟ ويعدونها بالدخول إلى جنة رئيسهم إذا انصاعت لأوامرهم وبأنها ستخرج للتو من ذاك الجحيم لتتسلم مقاليد وزارة الشؤون الاجتماعية. يريدونها أن تبيع آخرتها بعرض من الدنيا لكنها صمدت صمودا يعز على أعتى الرجال فما أعجبها!

من المواقف التي لا أنساها حين أرادوا تعليقها طلبت بنطلونا فأعطوها إياه، أما نحن في تونس فيعلقون النساء عرايا. لا أدري إن شفع لها تقدمها في السن أم أن هؤلاء القساة لهم شيء من تدين ثقافي يفوق حالنا هنا. ثم لا أنسى حين وضعوها في غرفة وأدخلوا عليها ماردا ليدنس عرضها فما إن تركوهما حتى لاطفها وناداها يا خالة ولم يمسها بسوء فكان جزاؤه الرمي بالرصاص. ثم أتوها برجلين اثنين وكانت الخطة أن يتناوبا على الاعتداء عليها. فما إن اقترب الأول حتى أمسكته من رقبته بكلتا يديها وأنشبت أسنانها في  لحمه فأردته جثة هامدة ! أي نعم يا سادة. رغم الإعياء والتعذيب والتجويع والأقدام المتورمة إلا أنها أوتيت قوة اللبؤة حين تنافح عن صغارها. فأكرمها الله وذاد عن حياضها.

في هذا الكتاب تعايش الأجواء التي "حوكم" فيها سيد قطب ولحظاته الأخيرة مع أخته وزينب في السجن والمساومة الأخيرة قبل إعدامه ظلما وزورا. ثم تستشعر كم أنها نعمة عظمى أن تطالع كتاب "معالم في الطريق" وأنت آمن في سربك معافى في بدنك لك قوت يومك تجلس على أريكة وترتشف الشاي بينما في وقت زينب كانت هذه تهمة في حد ذاتها فنحمد الله على نعمة الحرية التي أتت بها الثورة التونسية رغم تعثرها وكفى جحودا وكفرانا لآلاء الله.

هذا كتاب عظيم عظم التجربة التي يرويها بلغة جميلة واستشهادات كثيفة  ورائعة من القرآن الكريم. عيبه الوحيد التكرار. كنت أفضل أن تلخص الكاتبة بعض الأمور التي تتكرر كالاستجواب بنفس السؤال ونفس الاتهام ثم التعذيب فالمستشفى ثم التعذيب مرة أخرى فالمستشفى وهكذا في حلقة مفرغة تصيب الإنسان بالجنون إذا عاشها وبالملل إذا قرأها.

هذه امرأة انتصرت على الكلاب والقساة والتعذيب بالماء والنار والسياط ولم تقل إلا الحق. بينما يتهاون بعض الناس في الكذب ليل نهار في أمور تافهة، تحسبونه هينا وهو عند الله عظيم. سيد قطب لم يشأ أن يكذب لينقذ نفسه من حبل المشنقة والناس تكذب كل يوم ثم تزيد في الكذب إذ تسميه كذبا أبيض.

رحم الله زينب الداعية وجعلها في الفردوس الأعلى مع الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. ورحم الله الشيخ المشاغب وجدي غنيم إذ سمى فرعون مصر جمال العبد الخاسر. وحسبنا الله في تزوير التاريخ وكذبه. أنى ينصر الله المسلمين بمثل هؤلاء السفاحين المصابين بجنون العظمة؟ لا عجب إذن أن تنتكس الأمة في ماي67. لك الله يا فلسطين ! نحتاج إلى تحرير أنفسنا قبل أن نحررك ولكن نصر الله آت لا ريب فيه والأيام دول، فلنعمل قدر جهدنا والله ولي التوفيق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Cher journal

Cher journal En ce temps de sécheresse artistique et d'absence de vrais tourments et de réels "problématiques" dans ...