9/20/2013

هناك في ماليزيا 2



هناك في ماليزيا تجد حذو المسجد الدولي واحدا من أغنى المتاحف الإسلامية في العالم، متحف الفنون الإسلامية، بياض ناصع يشرح صدرك منذ البداية، متحف غني بقطعه المتفردة القيمة. حيث تجد معارض مختلفة للقرآن والمخطوطات اليدوية والخزف والأسلحة والمجوهرات والمنسوجات والمصنوعات الخشبية والعملات المعدنية وفن العمارة وقاعات هندية وأخرى صينية ومكتبة للأطفال وأخرى للعلماء... ومما أعجبني كثيرا النماذج المصغرة لأبرز المساجد في مختلف البلاد الإسلامية شرقا وغربا وكذلك المخطوطات الغاية في الروعة والإتقان والتي تترجم تميز أسلافنا وصبرهم على الفن الجميل وإجلالهم لرسالة القرآن. ومما أعجبني أيضا هذا الوفاء النادر لقضية فلسطين والاهتمام بالتعريف بها للناس أجمعين.


هناك في ماليزيا في جزر لانغكاوي يمتزج الواقع بالخيال، طبيعة رائعة الجمال، مناظر خلابة، رحلة بحرية ممتعة ما بين أنهار وبحار ذكرتني بفيلم أناكوندا أو بالأفلام الوثائقية، كان القارب يشق بنا عباب النهر وأنا لا أكاد أصدق، أرى النسور تنقض على الأسماك فتلتقطها من على سطح الماء وتصعد بها سريعا إلى عنان السماء، مشاهد لم أكن أرها إلا في التلفاز !  وكالعادة تغير الجو في لحظات، تفرقت النسور وحصلت الأسماك على هدنة، سماء داكنة وأمطار غزيرة جعلتنا نستحم رغما عنا، لكنني أعشق المطر والماء، وأتذكر دائما نبي الرحمة، لم يكن يختبأ صلى الله عليه وسلم كسائر الناس عند نزول المطر، بل كان يحسر عن ثوبه ليصيبه "لأنه حديث عهد بربه" ه



هناك في ماليزيا، كنا في طريقنا للصعود في التليفري وأخبرت السائق بأني أود رؤية القردة، فما كان منه إلا أن مال على اليسار حذو الغابة وقال لي : هاهي ذي. لم أكن أتوقع أن يكون مطلبي قريب المنال إلى تلك الدرجة. لا زلت أتذكر تلك الصورة الرائعة لصديقة لي على الفايسبوك في تايلاندا، كانت على شاطئ ذهبي تظلله الأشجار، وتحيط بها مجموعة من القردة الصغار. كم أدهشتني تلك الصورة حينها وكم تمنيت أن أكون في ذاك المكان. فالحمد لله الذي حقق أغرب أحلامي وما لم أكن قد وضعته في الحسبان. هاهو ذا قرد صغير ظريف ينظر إلي مباشرة وبدون قضبان، قرد في مكانه الطبيعي، في غابة عذراء يتنقل حرا بين الأغصان. تلاقت عينانا للحظات ثم انصرف عني منشغلا بما في يديه، لم يكن ليتفطن لما يختلج في صدري من مشاعر، كنت كالطفلة الصغيرة التي يختارها الساحر من بين الأطفال لتشارك في خدعته السحرية، امتزج الفرح بالخوف، لم يكن هناك قرد واحد بل مجموعة من القردة ولم أكن أدري ماهي طباعهم. فكثيرا ما صورت لنا الأفلام أن القردة مشاكسة وشقية لكنني في ماليزيا وجدتها هادئة وبريئة ونقية...


هناك في ماليزيا كل شيء هادئ حتى القردة، حتى الناس، حتى مكبرات الصوت، حتى الدراجات النارية. لم أنزعج أبدا من أي صوت، فلا تكاد تسمع إلا همسا، لم يزعجنا أبدا سائقو التاكسي بأنغام بذيئة رديئة تصدع الآذان، بل لا تسمع إلا الصمت في كل زمان ومكان، ولولا سرب الدراجات النارية الذي كنا نراه من حين لآخر  يجوب الشوارع مشاركا في الحملة الانتخابية لما سمعنا شيئا أبدا. حتى في المرة الوحيدة التي شغل فيها سائق التاكسي الراديو، كان الصوت يأتينا خافتا إلى أبعد الحدود بحيث لا تنتبه إلى الأغنية إلا إذا كنت تعرفها من قبل وإلا فهي فقط همهمات مبهمة لا تكاد تُسمع ... ومرة أخرى لم أتمالك نفسي عن مقارنة هذا الرقي بالتلوث الصوتي الذي عانيت منه طويلا في بلدي لا سيما في وسائل النقل الجماعي، كان الفارق صارخا يصم الآذان، هي ثقافة الهدوء في أبهى صورها.


على أن النغمات في ماليزيا هي هي، نفس الأغاني الأمريكية التافهة، لعنة الله على العالمية التي غزت كل شبر في الكرة الأرضية. قلت لزوجي أريد أن أسمع أغاني ماليزية باللغة الصينية أو الهندية، أريد أن أنطبع بالأجواء المحلية، قال لي مشاكسا: مالي أراك تتعرفين على هذه الأغاني الأمريكية وأنا الذي كنت أظنك تقية، قلت له آسفة لقد أخبرتك قبل أني كنت مراهقة شقية وتأخرت مراهقتي فصرفت ساعات في السلسلات الهزلية وسقط المتاع من الأفلام التجارية الأمريكية وبكيت جاك عندما مات في التيتانيك ولم أبك ما فاتني من المطالعات النافعة الدينية ولا قلة زادي من حفظ القرآن وتعلمه وإنا لله وإنا إليه راجعون...

هناك في ماليزيا رأيت انفصاما حادا في الشخصية، رأيت نساءا عاملات في الفندق يلبسن زيا موحدا لا يختلف في شيء عن زي الرجال، هو نفس البنطلون الأسود ونفس القميص القصير ذو الأكمام القصيرة ... زائد خمار فوق الرأس. فيا للعجب العجاب؟ كيف يلبسن الحجاب ثم يكشفن عن أيديهن إلى المرافق؟ أهو المناخ الصيفي الشديد الحرارة؟ ماذا يوجد داخل هذه الرؤوس الملفوفة؟ لماذا يضعن الخمار إن كن لا يفين بأبسط مقوماته؟ أهي عادة أم عبادة؟ قال سائق التاكسي أن هذه نتيجة دخول الانترنات والفايسبوك (الذي أسماه فتنة بوك) إلى المنازل وبعد الناس عن الدين وعدم إقبالهم على تثقيف أنفسهم دينيا .. هي نفس المشاكل التي نواجهها في مجتمعاتنا العربية لكن تبريره لم يكن مقنعا ولم يشف غليلي ... ما زلت لا أفهم! 

هناك في ماليزيا ترى المرأة نصف المحجبة تقود الدراجة النارية ويتطاير غطاء رأسها في الريح ولا أحد يهتم وترى المرأة العاملة في الفنادق والمطاعم تطغى على حضور الرجل، فجميع العاملين في الفندق الذي نزلنا به يكادون يكونون نساءا وتفسير ذلك حسب سائق التاكسي أنها الحاجة إلى النقود وأن الرجال عادة يعملون صيادين في البحر أو يشتغلون في البناء والأعمال الشاقة ويتركون (لشهامتهم) الأعمال الأقل عناءا للنساء. الآن أصبحت أفهم أكثر لم لا تبتسم هذه الوجوه ...

هناك في ماليزيا، عندما كنت أصعد السلالم في الصباح تبسمت لي عاملة النظافة ابتسامة قلما صادفت مثلها ... أشرق وجهها الآسياوي الأسمر بابتسامة غاية في الروعة والجمال، كانت ابتسامة حقيقية نابعة من القلب ليست من تلك الابتسامات المتكلفة التي سرعان ما تتلاشى إذا أدرت ظهرك، كانت من تلك الابتسامات الجميلة الكريمة الموغلة في الكرم وكأنها الأم تبتسم لوليدها، كم فرحت بها وتذكرت قول الرسول صلى الله عليه وسلم : “تبسمك في وجه أخيك صدقة”. فعلا هي صدقة، كنت نزيلة في فندق جيد على شاطئ البحر، كنت أحسبني غنية لكن عاملة النظافة كانت أغنى مني بكثير...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Cher journal

Cher journal En ce temps de sécheresse artistique et d'absence de vrais tourments et de réels "problématiques" dans ...