12/20/2018

ماذا أحب؟



حين تجد نفسك في مشهد سريالي تتحدث فيه والدتك أستاذة الفرنسية المجاهدة لست وثلاثين سنة مع تلميذها السابق الذي هو في نفس الوقت رئيسك في العمل، حين يتحدثان عنك بحضورك وتسمع أمك تقول له: "لو كان ريتها النصوص إلي تكتبهم خاصة بالفرنسية"
فتصيبني حبات عرق الإحراج على طريقة ماروكو الصغيرة وأهتف قائلة: "هو شيعمل بيهم النصوص؟ حاجتو بالخدمة"
ويقول هو : "لكنها ما تحبش تخدم"

فتدافع أمي وتنافح وتقول أن ابنتها تقوم بما يُطلب منها على أحسن وجه وأقول أنا بأنني لا يمكن أن أتميز في مجال لا أحبه فُرض علي فرضا ونُسب إلي قسرا بعد عطلة أمومة أعادوا فيها توزيع الأوراق والمكاتب والأدوار. فيخرج بطاقة أخرى من قبعة الساحر خاصته ويقول بأنه اعتزم أن يستثمر في شهادتي الهندسية وأمدني بوثائق وملفات في مجال الإحصاء وأراد أن يقوم بتأطيري قصد تطوير العمل وربما تأسيس نواة مرصد جهوي للإحصاء في ميدان التشغيل فأبيت. فتذكرت كدس الأوراق المصفرة المغبرة التي أحضرها من الولايات المتحدة الأمريكية عام الحرب وهتفت به : إن هي إلا أوراق قديمة أكل عليها الدهر وشرب وتجشأ فقال بل تلك هي الكنوز والدرر.

ولذت بابتسامة صامتة وتركت أمي تكمل الحديث، فما كل ما يُعرف يقال. هل ينفع أن أجيبه بأن السنوات العجاف في العمل غيرتني وأشهر الثورة الأولى بدلتني إذ أنهض باكرا في كل يوم وأركب المواصلات وأمشي على قدمي من أجل السراب. نقوم بدراسات واستبيانات ثم تقرر الرئيسة أنها لا تصلح لعرضها على الوزير الجديد. إذ هي تقول في جوهرها أن الشباب بات يائسا بائسا عازفا عن مكاتب الشغل التي لا تشغل. هل ينفع أن أخبره أنني ربما أخطأت الطريق وأنني أستمتع أكثر بكتب الفكر والأدب من تقارير الإحصاء وأرقام لا تقدم ولا تؤخر؟

هل ينفع أن أخبره بأنني إنما دخلت لوزارة التشغيل لأنها كانت الأولى في سلسلة من الوزارات التي فتحت مناظرات انتداب للمهندسين أمثالي؟ وحدث أنني نجحت منذ الامتحان الأول وسألتني لجنة الأقزام السبعة ما الذي أتى بك إلى وزارتنا ولم اخترتها؟ (لكأنني في شركة غوغل أو التفاحة الأمريكية). فقلت بصراحة لأنكم فتحتم مناظرة. فلما أصروا قلت: لنجد معا حلا لمشكلة البطالة. وساد الضحك وسحرت أعينهم بعفويتي وخرجت وأنا أعرف جيدا أنهم على الأقل لن ينسوني وهكذا كان رغم الحجاب الذي ألف به رأسي في زمن منع الحجاب أيام الإرهاب ! ولم أكن وحدي بل كانت معي ثلاث من المحجبات وشاب خامس لولا أنه شاب لكان المحجب الخامس. وقد طار من جمعنا الصواب وكادت أن تسقط رؤوس لكن الله سلّم.

هل ينفع يا سيدي أن أخبرك أنني أيام ملفاتك الصفراء القديمة كنت أعيش حلم الخطوبة اللذيذ وأنتظر رحلة تحملني مع حبيبي إلى بلد بعيد ثم عودة تجمعنا في بيتنا السعيد. مالي وأوراقك التي إن كانت تصلح لنفعتك. هل تحسب أني أعشق العمل؟  ثم ما جدوى الدراسات والأرقام في مشكلة حلها المشاريع والاستثمار؟

كنت أحب مادة الإحصاء بأنواعه بسبب أستاذة رائعة ماهرة، فرنسية ساحرة ونشاط بل كرة من الطاقة ملتهبة تتقافز في أرجاء القاعة. كانت أياما جميلة. لكن شتان بين الدراسة والعمل شتان.

لقد كبرت يا سيدي وتغيرت وعدت إلى القراءة لا سيما بالعربية وعشقت الكتابة رغم خطورتها ووعورتها. هل ينفع أن أقول لك: ربما كان الأجدر بي أن أستمع إلى كلام أستاذتي في العربية في السنة الخامسة ثانوي وقد أرادتني أن أسلك نهج الآداب.

الآداب، تلك الشعبة التي تعني للأسف الفشل والرداءة. كل الفاشلين والعاطلين والذين لا يصلحون لشيء يذهبون إليها. تلك الشعبة المظلومة. فتركتها وهجرتها وكرهت تاريخها وجغرافيتها وحفظها وسحرتني شعبة الرياضيات ببريقها ولمعانها. فتبعتها وما أعطيتها حقها من جد وعمل لكي أتميز. فدائي لو تعلمون كسل.

الحقيقة أنني كنت أصلح لجميع الشعب دون استثناء لكنني لم أكن أعرف نفسي بعد أو كنت أحب أشياء لم أعد أحبها اليوم... لو رجعت إلى عمري آنذاك لربما اخترت شعبة التحضيري في الآداب عوض التحضيري في الرياضيات والفيزياء. ولو فعلتها لربما كرهت اللغات والآداب. من يدري؟

المحقق يا سيدي هو أنني أمتلك اليوم مهارات في القراءة والكتابة لن تجدها عند عامة الموظفين الذين لا يحسنون أن يكتبوا جملة دون أن يلحنوا فيها. وتلك هي ميزة كبرى وذاك هو سري الأعظم الذي لا أطلع عليه أحدا منكم ههنا يا من تعملون معي ولا تعرفون من أنا. وما دمت أمارس هوايتي بانتظام أسعى إليه ولا أبلغه دائما فما عاد يهمني طبيعة عملي. سأفعل ما يُطلب مني فقط. لكن لا تنتظر مني شغفا ولا إبداعا ولا روح مبادرة في عمل اختارني ولم أختره. والحمد لله أن جعله عملا بسيطا مريحا يتيح لي فرصا كبيرة للمطالعة إن ساد الصمت من حولي وقليلا ما يسود.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Cher journal

Cher journal En ce temps de sécheresse artistique et d'absence de vrais tourments et de réels "problématiques" dans ...