9/18/2017

أبطال مغمورون





ليست المرة الأولى التي أزور فيها خال زوجي. كنت أعلم جيدا أنني ذاهبة إلى بيت نظيف وجميل وعصري. هو منزل كبير ذو طابقين تحيط به شرفة مفروشة ببلاط أنيق تتخلله بضع شجيرات، زيتونة مباركة وياسمينة وبرتقال وورد ذو لون بنفسجي خلاب. لكن أكثر ما يعجبني في هذا البيت ليس لون الجدران ولا نوعية الرخام ولا تصميم المطبخ ولا جمال المدفئة. ما يبهرني حقا هو النظافة. كل شيء في هذا البيت يشي بنظافة صاحبته. تلك المرأة العظيمة المجاهدة، الراعية لزوجها وأولادها الثلاثة. هي أميرة في مملكة من الذكور. تعمل على تنظيف المسكن وتحضير الملبس وإعداد المطعم نهارا ثم تسهر خوفا على ولدها اليافع ليلا. إذ أن أباه ينام باكرا لينهض إلى عمله في الصباح. هي المرأة المرابطة في كل الثغور القائمة بواجبها بفن وذوق وإتقان.

هذه امرأة جعلت بيتها معبدا للطهارة ومتحفا للنقاوة ومضربا للأمثال وغاية في النظام. فلا تكاد تخطئ عينك عدد الساعات التي تمضيها في الكنس والغسل والمسح والشطف. هذا بيت لا فرق بين داخله وخارجه. لا فرق بين أرضية الحمام وبلاط الحديقة. بل إن المكنسة تبرق من شدة النظافة، ألوانها صافية زاهية كأن أنفها لم يرغم قط في التراب ولا عرف الأوساخ والغبار. هذا نوع من الإحسان فاق كل اعتبار.

وفاء لم تقل حرفا واحدا لكنها علمتني ألف درس من دروس العمل الصامت أو الصمت العامل ... والإيثار. صحيح أنها ملكة في بيتها لم تعمل يوما قط ذاك العمل المتعارف عليه .. وصحيح أنني أعمل خارج البيت .. وداخله لكن يمكن أن أكون أفضل من هذا ويمكن أن تقدم هي أقل من ذاك. لكنها طبيعة جُبلت عليها تهوى النظافة والجلوس في البيت وتنفر من القذارة والشمس الحارقة. أما أنا فكم من أشياء كنت أملك تغييرها ولم أغيرها؟ أحسب أنني أفعل جهدي للتوفيق بين العمل والبيت والزوج والولد لكنني أستطيع أن أفعل أكثر. كم مرة اشتريت ملابس وأشياء تخصني ثم تركت الأكياس مكدسة في الأرض لأيام؟ كم مرة مررت بجانب حذاء مهمل ولم أضعه في مكانه لأني لا أحب الانحناء؟ كم مرة قدمت التعليق أو الإجابة على رسائل في الفايسبوك على طي الملابس التي سئمت الانتظار فوق الأريكة؟  كم أنفقت من الساعات أتفرج على آلاف الصور والوصفات دون أن أجرب واحدة لأني لا أملك الشجاعة لجمع كل تلك المقادير والمكونات؟ هو داء التسويف وآفة الترفيه. نعمل قليلا ونستهلك كثيرا...

وفاء راعية لبيتها ومسؤولة عن رعيتها، وفية لرسالتها، مخلصة لمهمتها، وفاء اسم على مسمى وبطلة من الأبطال المغمورين وما أكثرهم، أولئك الذين لا يتصدرون الصفحات الأولى في الجرائد ولا نشرات الأخبار لأنهم لا يقتلون أحدا ولا يتدخلون في السياسة ولا يجرون وراء كرة جلدية ولا يرقصون نصف عرايا باسم الفن، هم يجاهدون صباح مساء ليقدموا أعمالا جليلة لمحيطهم الضيق. هم الطباخة الماهرة والأم المبدعة والنجار المتقن والمعلم المتفاني. سلمت الأيادي العاملة وبوركت السواعد الكادحة. وتحية خاصة لأمي البطلة المجاهدة صغيرة وكبيرة وإلى يوم الناس هذا! كيف أكتب عن وفاء وأمي أستاذة الأوفياء؟!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Cher journal

Cher journal En ce temps de sécheresse artistique et d'absence de vrais tourments et de réels "problématiques" dans ...