يبكي الأب حين تتزوج
أكبر بناته وينتحب حين تتزوج الصغرى
يسمع رجلا
بجانبه يسرد كلاما قاله آلاف المرات، يتحدث كرجل آلي، يتوقف كرجل آلي، يلتفت إليه
يسأله سؤالا، يتسلط عليه ضوء القُمرة وتلاحقه العيون وترهف الآذان السمع ينتظرون
تلكم الكلمة السحرية: زوّجتك ...
يقولها بل لا
يكاد يهمس بها حتى ينفجر باكيا كطفل صغير فقد أمه في غمرة الزحام... وتبكي العروس
وتبكي الأم ويبكي كل من في قلبه ذرة إنسانية أو رحمة أو أنانية...
أنا أيضا بكيت
.. لكن ليس كالآخرين ... لم أبك يوم الزفاف، أو في ليلة العروس الأخيرة في بيت
أبيها .. بكيت عند أول صيحة فرح أو فزع بقدوم عائلة العريس ليحملوا مستلزمات
الوليمة التي ستصنع في اليوم التالي,
بكيت حين سمعت
السيارات تهتف بمزاميرها والزغاريد المجلجلة تنطلق من حناجرها وترانيم دينية تحتفل
بقدوم نبيها عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
كنت حينها قائمة بين يدي ربي أصلي صلاة الظهر فاهتز قلبي وانفجرت الينابيع
من عيني. بكيت لأنني أحسست أن السهم قد
انطلق من القوس وما هي إلا أيام معدودات حتى تنتقل صغيرتنا إلى بيت زوجها، تأثرت
لموكب العرس المهيب، لهذا الناموس الكوني، لهذه الفطرة الخلقية، لهذا النبإ
العظيم... سبحان الذي خلق لنا من أنفسنا أزواجا لنسكن إليها وجعل بيننا مودة
ورحمة. سبحان الذي أوقد في قلوبنا هذه الشعلة وبعث في أوصالنا هذه الجذوة وشرع لنا
ميثاقا غليظا يجمعنا. سبحان من خلقنا!
انقضت سبع
أيام من الأفراح والليالي الملاح. كان عرسا تقليديا بكل ما تحمله الكلمة من إسراف
في العادات وتبذير في المعاملات وفرح ومرح. لكن سفينة الزمن مخرت بنا عباب البحر
في طرفة عين، ولم نكد نفق من غفوتنا حتى وجدتنا في الضفة الأخرى، نتراءى أختنا من
بعيد وهي تلوح لنا بعينين دامعتين وابتسامة حالمة. وجدتنا في الضفة الأخرى من
عمرنا. لقد كبرنا. حتى الصغيرة فينا كبرت. وعاودني البكاء...
في يوم السبت
التقينا علنا نعزي بعضنا ببعض لكني تذكرت ديار الموتى حين تغص بالمعزين ولا عزاء
لحبيب عن حبيب. لو اجتمع أهل الأرض كلهم فلن يعوضوا غياب ذاك الراقد تحت التراب.
لكن أختي تعيش أحلى أيامها سعيدة بزوجها وشبابها، تجري تحت سماء قسطنطينية الرحبة،
تخرج من نزل إلى قصر ومن قصر إلى حديقة إلى بوسفور إلى سفينة. ومعها ذاك الذي
أحبته وانتظرته ثلاث سنوات. ففيم الحزن وعلام الألم؟ ألا يجدر بي أن أفرح لفرحها؟
أهي أنانية مرضية في قلبي أو شيء من الغيرة وفيم؟ ألم أتزوج منذ زمن ليس ببعيد
وأذهب مع حبيبي إلى أدنى الأرض حيث تبدأ الأحلام ولم أعبأ حينها بمن تركتهم خلفي؟
بكتني أختي وكنت أجري من جزيرة إلى أخرى وأتقافز بين الشلالات والغابات تحوطني
القردة وتفزعني الحشرات. وعاودني البكاء.
كم أكره يوم الأحد، كان الطقس كئيبا والأفق متجهما
ووجه السماء حزينا، تماسكت في البداية، تعاميت، تشاغلت لكنني أخيرا أطلقت العنان
لدموعي. أختي الصغيرة تزوجت وهي الآن في بلد بعيد تنعم بشهر العسل وحين تعود ستسكن
في العاصمة بعيدا عنا .. آه لو كانت على الأقل ستسكن في مدينتنا، لو كنت أقدر أن أمر
بمنزلها وأنا عائدة من عملي، لو كنت أستطيع أن أتسوق معها أو أشرب فنجان شاي على
حين غرة .. لم أحبت ذاك الشاب التونسي ؟ لم تزوجت وهي لا تزال صغيرة؟ صغيرة؟ هي في
السادسة والعشرين من عمرها أهذا ما تسمينه صغيرة؟
أدخل ذاك
العالم الأزرق، أجد صفحات المطبخ والوصفات وصور الإنجازات من كعك وحلويات شرقية
وغربية فتعاودني الدموع، أتذكر ولع أختي بصنع الحلويات، أراها وهي تدلف إلى غرفتي
حاملة بهجتها و صحن كراب بالشوكولاطة، تضعها بين يدي ولا تبرح مكانها حتى أتذوق
صنع أناملها. ثم تخرج بابتسامة عريضة كعرض البحر وتتركني معتكفة في كهفي بين القراءة
والكتابة والتسكع في بحر المواقع والأفكار والصور.
هذه هي أختي
التي أحببتها ولا زلت إلى حد كتابة هذه السطور أشتاق إليها، عسى ربي أن يجمعني بها يوم
السبت في بيت والدي، حيث سنمثل كلنا دور البنات اللواتي لم يتخلين يوما عن
براءتهن.
هذه أختي التي لم تشاركني ولعي بالكتب لكنها علمتني أن هناك عالما خارج عالمي، علمتني فن التعامل مع الآخرين، فن الكلمة الطيبة وإدخال السرور على قلوب المؤمنين ونشر الابتسامة واقتلاع الحب وإطعام الطعام وإفشاء السلام، علمتني بذل الوقت والنفس للناس والرفق بالكبير ومداعبة الصغير
علمتني بر الوالدين وفنون جميلة جعلت عالمها وعالمنا أجمل وأرقى
أمان مازلت أراك في الثالثة أو الرابعة من عمرك تتمسكين بفخذ أبي وتنتحبين لأنه سيخرج للعمل بدونك
اليوم أنت من خرجت وتركت أباك واقفا على أعتاب غرفتك
عودي فالطقس
كئيب والسماء ما فتأت تبكي ...
تدوينة رائعة، ما شاء الله
ردحذفأبكتني
مبارك زواج أختك، بارك الله لهما
و هذه سنّة الحيّاة :)
جزاك الله خيرا خولة أسعدني تعليقك
ردحذففعلا إنها سنة الحياة اللهم بارك لنا في أعمارنا
الدنيا ياسر تجري بينا شي يخوف :D
دمت مؤنستي <3 :)