5/28/2017

حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينْ




الموت قريب وعنيف، الموت أليف ومخيف. الموت ورقة الامتحان تسحب منك وفيها أخطاء لم تمحها وأفكار لم تحيها وعزائم لم تمضها ومساوئ لم تبكها. ما أقرب الموت وما أقساه في أيام الربيع الغادر.  ترى الطبيعة قد تجملت "حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا. "هو ذا والله، هو ذا.

الموت قريب والعالم الأزرق صار كالمبكى. جدرانه تكتظ بنظرات الموتى، بكلمات الموتى، بابتساماتهم، بصرعى الفجأة. آخر الضحايا فتاة تحضر لزفافها. احتفلت أمس بعيد ميلادها، واليوم ترقد جثة طاهرة. اليوم تفترش التراب... بعد أن صار زواجها مجرد سراب. الآن هي في صلب الموضوع، في لب الحقيقة. سكت قلبها كأنه لم يتحمل سعة آمالها العريضة.

كتب أحدهم يقول: "كانت على مشارف أن تُزيّن كفَها بالحنَاء ، وأن تجْلس عروسًا على رأسِها تاج العِفَة والبهاء ، وأن تسْدل على مستقْبل زوجها رداء السَكينة والمودَة والصَفاء ، وان تسْتقْبِل عالم الزوجيَة بكل آمال الصَبايا وأحْلام النِّساء..منذ أشهر نالت شهادة الدكتوراه...منذ اسابيع اعلنت خطبتها ... البَارحة فقط احتفلت بعيد ميلاها مردّدة أنه آخر عيد ميلاد لها وهي عزْباء ...
لكنَ الموت كان أسْرع وذلك قدر الله تعالى وما شاء الله قضى ..."

آخر ما نشرت على الفايسبوك مقطع مصور لرضيعة تستقبل أباها بالأحضان فلا تكاد تفارقه...
رحم الله أسماء، تلك التي جاهدت لتكمل دراستها...

الموت قريب، والخبر على مرمى اصبع. لا تغرنك أيام الربيع الزاهية فهي في طياتها تخبئ قصصا لا لون فيها، ولا رائحة... إلا رائحة الفقد ولون الموت. منذ أيام بكيت حين رأيت صور الرضيعة التي ماتت في نومها بعد ثلاث شهور من ميلادها. كرامة، كم أبكتني صورها وهي في قمة البراءة والظرافة. تلك الجميلة، تلك البريئة كم خلف موتها من أسى في قلب أمها وأبيها.

قرأت كلمات أمها الثكلى وهي تروي قصتها منذ زواجها وحملها إلى أن وضعتها ثم فقدتها بدون وداع. كان نصا جميلا حزينا باللغة الانقليزية. أعجبت بها وحسدتها على تمكنها من تلك اللغة التي لا أحسن الكلام بها. لكن رسائل الأحزان تدفقت تترا ... وهالتني التعاليق في أسفل ذلك النص العتيق. "رحمك الله يا رانية، لم تتحمل فقد ابنتها". أجل بعد سنة من الزواج ماتت الصغيرة وبعدها بشهرين أو ثلاث لحقت بها أمها  الكليمة. وبقي زوجها وحيدا في حزنه، مضاعفا ألمه، لا يفتأ يرسل الرسائل ويسود جداره الأزرق بخربشات هي أقرب للهذيان منها للكلام الموزون. ربط الله على قلبه وجمعه بحبيبتيه في الجنة.

ومنذ أيام فقدت زميلة في العمل في حادث مرور اغتال شبابها وجمالها وذهب بتغنجها ودلالها ولم يذر شيئا من آمالها.. ماتت وصاحبها على الفور في ساعات الفجر الأولى. هكذا بدون مقدمات ولا مجاملات. لم أكن أعرفها فلم تكن تأتي إلى العمل إلا لماما وما جمعني بها حديث يتجاوز الثلاث سطور. لكن موتها أزعجني وأرقني وأفزعني. لا أنسى صورتها وهي في كامل زينتها وتمام أناقتها وبريق شبابها، تطالع نفسها في المرآة، تقول لها: ألست أجمل الجميلات؟ كانت بادية السعادة والموت رابض خلفها يسخر من غفلتها وطول أملها. والملك يشفق من موتها قبل توبتها. ذاك الجمال يرقد الآن بعيدا خلف التلال. ذاك الدلال ينام تحت التراب حيث الدود والهوام. هذا هو الإنسان.

تمنيت لها نهاية أسعد وآلمني موتها، لا سيما وقد أيقظني هاتفه حين كنت أحسبني في أجمل لحظات الحياة صفاء، وأقواها نبضا وضياء. غرتني الشمس الدافئة وصفحة الماء الباردة وأديم السماء الصافية. غرتني ضحكات ولدي وهو يدرج في سنته الثانية. تذكرت تلك الحقيقة المرة التي صدمتني ذات ربيع لأول مرة. وعدت تلك الطفلة المراهقة التي لم تصدق موت جدها دقائق بعد أن قدم لها الشكولاطة أمام المعهد وهي  في أسبوع الامتحانات.

عدت إلى بيتي. جلست إلى طاولتي لأكتب خاطرة في الحاسوب. وفي الكرسي المجاور أحسست أن الموت يجالسني، يطالعني، ينتظرني، يتربص بي أو تراه بولدي؟ أحسست بأنفاسه الباردة تلفح وجهي وتسري في دمي. ناديت ولدي. تعال حبيبي فأمك الخائفة بحاجة إلى مواساتك وأنسك وابتساماتك. تعال يا مسكين مهما طال بك العمر وامتدت بك السنين ... فلا بد من يوم ...

يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم، ما غرك حتى تمشي في الأرض مرحا وتلعب بورقة الامتحان. ما غرك ويحك حتى تتكبر وترسم أشكالا وتضيع أعواما ولا تجيب عن السؤال؟ أنت في امتحان لا تدري متى ينتهي وتسحب منك الورقة فلا ينفعك بعدها إنس ولا جان. ليس لك إلا ما سودت في بياضها فإن خيرا فخير وإن شرا فشر. ليس لك إلا الساعة التي أنت فيها فما فعلت فيها؟


اللهم أحسن خاتمتنا وارحم موتانا وارحم شهداء اللحظة وصرعى الفجأة الذين ماتوا لنعتبر واستشهدوا لنتذكر واغتيلوا لنتدبر وذهبوا في ربيع الأيام وزهرة الشباب وفجر الأعوام كي نصدق أن الموت كمين، كي نعبد ربنا حتى يأتينا اليقين.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Cher journal

Cher journal En ce temps de sécheresse artistique et d'absence de vrais tourments et de réels "problématiques" dans ...