كنت في
السيارة حذو المسجد أنتظر زوجي. تشاغلت بقراءة كتاب. مضت نصف ساعة وهو لم يعد بعد
وقد أزف وقت الغروب. وماهي إلا هنهيهات حتى سمعت أذان المغرب ورأيت أفواج المصلين
تتجه إلى قبلة واحدة. كنت قريبة من الباب، أرى وأسمع ولا أتكلم. ثم جاء بؤس وجلس
على قارعة الطريق. كهل في هيئة شيخ كبير. رجل ما بين الخمسين والستين، أضنته أعوام
ذل وقهر طويل فخلته أكبر من عمره بسنين. جلس القرفصاء بجانب الباب يستدر عطف
المصلين. لسان حاله يقول إنهم من المؤكد أناس طيبون، يخافون الله ويعظمون شعائره. تفقد
أسماله البالية، تحسس لحيته الكثة وشعره الذي لم يعرف المشط منذ شهور وتنهد
تنهيدة رضى. كل شيء تمام، ليبدأ
العرض ! راقبتُه باشمئزاز، لقد أفسد اللوحة الفنية. شفق يطل من وراء مسجد جميل ثم
تأتي كتلة البؤس هذه وتتكدس على بابه. يا للفضيحة ! ألا يعي أن
لعبته مكشوفة؟ يأتي بالضبط مع وقت الصلاة؟ ألا لو أديت صلاتك لكان خيرا لك ولأغناك
خالقك عن كل خلقه يا تاعس ! أشحت بوجهي عنه وتناهى إلى مسامعي صوت الإمام وهو يقرأ
القرآن وكغالب الأحيان قلت في نفسي : خسارة مسجد أنيق
وإمام لا يحسن القراءة وليس له صوت رخيم.
ثم قادني بصري مرة أخرى إلى
كتلة البؤس فوجدتها تصلي. نعم تصلي وراء الإمام في الشارع. وسرعان ما تحولت مشاعر
الاشمئزاز إلى سيل جارف من الرحمة وتفطر قلبي إشفاقا عليه. مسكين هو، متسول ولكن
عمله في التسول لا يشغله عن أداء الصلاة. حسنا ألم يكن من الأولى أن تدخل المسجد
كسائر الخلق وتصلي خلف الإمام في الداخل ثم تخرج مسرعا لتتلقف ما تلقيه إليك الأكف
السخية؟ ولم تكتمل الفكرة في رأسي حتى رأيت كتلة البؤس ترفع من الصلاة وتسلم
والإمام لم يكمل بعد ! تتلفت يمنة ويسرة تراقب
بخبث ما يجري حولها ثم تعود للسجود، تمثل دور الصلاة ولا تصلي، تريد ضرب عصفورين
بحجر واحد ولا تبذل في سبيل ذلك إلا كذبا
ورياءا؟ ! وتساءلت ما الذي يبعث ابن آدم على إذلال نفسه إلى هذه الدرجة؟ لم كل هذا
العبث والخسة؟ أصار الكل يحترف لعبة المتاجرة بالدين؟ هيا يا مسكين سأظل أراقبك
لنرى بماذا سيعود عليك هذا التهريج.
بدأت الوفود
تتسابق من دار الآخرة إلى باب الدنيا. رجال بلحى قصيرة أو طويلة أو بدونها. يا ترى
هل يقيس البؤس حظوظه بطول لحية المصلي؟ أم بسنه؟ هل ضحايا دجله من الشباب أو
المتقدمين في السن؟ أرى شابا سلفيا يتباطأ أمام الباب يلقي نظرة إلى الكتلة
البائسة على الرصيف، تتردد عينه لحظة ثم يشيح بوجهه ويحمل دراجته النارية بعيدا
ويطير. كلهم رجال مسرعون، متعجلون. لم يروا كتلة
اليأس وهم داخلون فكيف بها وهم خارجون.
فعلا الكل لا يرى هذا البائس ولولا تمتماته الخافتة لما تنبه إلى وجوده أحد وكأنه
يلبس عباءة هاري بوتر التي تجعله يختفي عن الأنظار. لقد واصل عرضه البائس متظاهرا
بالصلاة واضعا جبهته على الرصيف البارد الكالح، لكن لم يعنى به أحد. ما حظوظ هذا
التاعس في هذه المنطقة المليئة بالمؤسسات الكبيرة والمباني الشاهقة والمطاعم
الفاخرة والمشاغل والهموم من فئة خمس نجوم؟ لو استقل الميترو الخفيف الذي يغوص في
أدغال الأحياء الشعبية لكانت حظوظه أوفر، لكان رحمه الطلبة المفلسون وربات البيوت المتواضعة
بدريهمات قليلة على قدر جهدهم، أما هذه الأحياء الراقية وهذه الأنهج الرأسمالية فلا
خير يرجى في روادها ولا أمل يعقد في متساكنيها لقد أفسدتهم
الحضارة !
انظر إليهم
مساجين حبس خرجوا للتو من مكاتبهم الضيقة، يشددون على أنفسهم الخناق بربطات عنق
ويلبسون بدلات ذات أكمام طويلة واليوم قائظ. الكل يسرع إلى باب الخروج ورأسه مكتظ
بالأفكار فهذا رجل يحث الخطى إلى بيته ليرى ابنته المريضة وذاك شاب على موعد مع
صديق فرقت بينهما الأيام وذاك كهل يتذكر ما قاله الطبيب وتذهب نفسه حسرات على
حرمانه من أكل الهريسة والمملحات وذاك سلفي يفكر في الانضمام لصفوف المجاهدين في
سوريا وآخر يتخيل فتاة أحلامه في ثوبها الأبيض ويعُد الأيام. كل كان في مراجعة
كثيفة لهمومه، ألم يكن واقفا بين يدي الله؟ تلك إذا فرصته، هو محروم من الحركة
الإرادية لبضع دقائق لكن خياله حر يسبح به هنا وهناك. يرتب أفكاره يقرر ما سيفعله
بعد الصلاة، يتخيل العشاء اللذيذ الذي أعدته زوجته أقالت أنه طبيخ أم تراها صنعت
بيتزا إيطالية؟ أترى مديره في العمل سيرسله في بعثة أم سيخير عليه تلك الشابة
المتغطرسة التي تجيد الفرنسية؟ الكل في مشاغله وهمومه وهذا المسكين على باب المسجد
يخال أنهم يحسون به أو يرحمونه. يكاد المكان يصبح خاليا لكنه ما زال ههنا. يقول ربما
.. مازال بعض الرجال يخرجون بين الحين والآخر. هناك من يصلي النوافل أو يقوم
بأذكار ما بعد الصلاة وأمله في هؤلاء كبير. نعم لقد علمته التجارب أن حظوظه تقرب
إلى الصفر مع هذا السواد الأعظم.
فرصته الحقيقية مع المتأخرين في الخروج، هم أقرب
إلى الله، هم طيبون ومحقق أنهم سيرحمون. لكن هيهات خرج الكل وما رأيت أحدا ناوله
مليما واحدا. ضاع جهده سدى وباءت مسرحيته السيئة الإخراج بالفشل. يا ليته على
الأقل ربح أجر الصلاة وما ضيعها بفتات الدنيا ويا ليته أتى. نعم هذا هو البؤس
بعينه متجسدا في هذا الآدمي الذي فقد إنسانيته يوم أن أخرج نفسه من عبودية الله
إلى عبودية البشر. لقد بلغ أرذل العمر وما فهم شيئا من الحياة. فعلا إن الجهل
مصيبة وأكبرها الجهل بالله الرزاق ذي القوة المتين. قم يا مسكين. انتهى كل شيء،
ليس هناك أمل في أن تغنم شيئا من وراء هذه الرزية التي أرزيت بها نفسك. ما يزال
جالسا، ربما لم يقو على النهوض من هول الصدمة. ربما ... دفنت رأسي في كتابي ونسيت
الرجل. عندما رفعته كان قد اختفى. رحلت أسماله البالية وبقيت رائحة البؤس تعم
المكان. هكذا هو البؤس يأخذ زمنا طويلا ليندثر. وندمت على تفريطي، كان بودي أن
أقتفي أثره، أريد أن أعرف قصته، وددت لو أحدثه لكنه اختفى... كتب علي أن أرى وأسمع
ولا أتكلم !
كتبت هذا النص منذ شهر أو شهرين، كنت آمل حينها نشره في مدونة جديدة خاصة باللغة العربية. لكني اليوم لا أجدني قادرة على ذلك. لقد نسيت لغتي الأم وهذه هي النتيجة.
كتبت هذا النص منذ شهر أو شهرين، كنت آمل حينها نشره في مدونة جديدة خاصة باللغة العربية. لكني اليوم لا أجدني قادرة على ذلك. لقد نسيت لغتي الأم وهذه هي النتيجة.